ثمّ إنّ الدّنيا دار فناء و عناء، و غير و عبر، فمن الفناء إنّ الدّهر موتر قوسه، و لا تخطي سهامه، و لا توسى جراحه، يرمى الحيّ بالموت، و الصّحيح بالسّقم، و النّاجي بالعطب، آكل لا يشبع، و شارب لا ينقع، و من العناء أنّ المرء يجمع ما لا يأكل، و يبنى ما لا يسكن، ثمّ يخرج إلى اللَّه لا مالا حمل، و لا بناء نقل، و من غيرها أنّك ترى المرحوم مغبوطا، و المغبوط مرحوما، ليس ذلك إلّا نعيما زلّ، و بؤسا نزل، و من عبرها أنّ المرء يشرف على أمله، فيقتطعه حضور أجله، فلا أمل يدرك، و لا مؤمّل يترك، فسبحان اللَّه ما أغرّ سرورها، و أظمأريّها، و أضحى فيئها، لا جاء يردّ، و لا ماض يرتدّ، فسبحان اللَّه ما أقرب الحيّ من الميّت للحاقه به، و أبعد الميّت من الحيّ لانقطاعه عنه
اللغة
(الغير) اسم من غيره جعله غير ما كان و حوّله و بدله و غير الدهر وزان عنب احداثه المغيرة و (موتر) من باب الافعال أو التفعيل و كلاهما مرويّان يقال: أو تر القوس أى جعل لها وترا و وترها توتى را شدّ وترها، و الوتر محرّكة شرعة القوس و معلقها و الجمع أوتار و (أسى) الجرح اسوا واسى داواه، اسوت بين القوم أصلحت و (أضحى) فيئها من ضحى الرجل إذا برز للشمس
الاعراب
أكل بالرفع خبر لمبتدأ محذوف، و قوله لا مالا حمل، لا للنّفى و ما لا منصوب بفعل محذوف يفسّره ما بعده، و جملة المنفي حال من فاعل يخرج
المعنى
ثمّ انّه عليه السّلام وصف الدّنيا بأوصاف منفّرة و عن الركون إليها فقال (ثمّ انّ الدّنيا دار فناء و عناء و غير و عبر) أى دار موصوفة بالفناء و المشقة و التغيّر و الاعتبار (فمن الفناء انّ الدّهر موتر قوسه) شبّه الدّهر بالرامي بالقوس على سبيل الاستعارة بالكناية، و الجامع بينهما أنّ الدّهر يرمى بمصائبه و حوادثه المستندة إلى القضاء الالهى الذي لا يتغيّر و لا يتبدّل، كما أنّ الرامي يرمي بسهامه الغير الخاطئة، و ذكر القوس تخييل، و ذكر الايتار ترشيح (و) رشّح ثانية بقوله (لا تخطي سهامه و) ثالثة بأنه (لا توسى جراحه) أى لا تداوى و لا تصلح.
و لما جعل الدّهر بمنزلة الرامى بيّن كيفيّة رميه بقوله (يرمى الحىّ بالموت و الصحيح بالسّقم و الناجي بالعطب) و الهلاك و قوله (آكل لا يشبع و شارب لا ينقع) يعني أنّ الدهر آكل لا يشبع من أكل لحوم الناس و افنائهم، و شارب لا يروى من شرب دمائهم، و هو من باب التّشبيه البليغ على حدّ قولنا زيد أسد، لا الاستعارة كما توهّمه البحراني، لأنّ مبنى الاستعارة على تناسى التشبيه مبالغة كما في قولك رأيت أسدا يرمى، فيلزمه أن لا يؤتي بطرفى التّشبيه معا في الكلام، لأنّ الاتيان بهما يبطل ذلك الغرض، و قد تقدّم تحقيقه في ديباجة الشرح.
(و من العناء) أى من عناء الدّنيا و مشقّتها (أنّ المرء يجمع) فيها (ما لا يأكل و يبنى ما لا يسكن) لا يزال مشغولا بالجمع و البناء حتى تتمّ المدّة و تقضى (ثمّ يخرج إلى اللَّه سبحانه) فيدع ما جمع و يذر ما بنى يأكله الأعقاب و الأبناء و يسكنه الأباعد و الأعداء (لا مالا حمل) ه إلى محطّه«» (و لا بناء نقل) ه إلى مخطّه و في هذا المعنى قال الشّاعر:
- هبك بلّغت كلّما تشتهيهو ملكت الزّمان تحكم فيه
- هل قصارى الحياة إلّا الممات يسلب المرء كلّ ما يقتنيه
(و من غيرها) أى تغيّر الدّنيا و انقلابها (انّك ترى المرحوم مغبوطا و المغبوط مرحوما) يعني ترى من يرحمه الخلايق بسبب الضّر و الفقر و المسكنة يصير في زمان قليل موصوفا باليسار و الرّخاء و السعة فيغبطونه بذلك، و ترى من يغبطه الخلائق بالعزّ و المنعة و الغنى يصير عمّا قليل مبتلا بالذلّ و الفقر و العناء، فيرحمونه لأجل ذلك.
و (ليس ذلك إلّا نعيما زلّ و بؤسا نزل) أى ليس كون المغبوط مرحوما إلّا بنعيم انتقل من المغبوط إلى غيره، أو شدّة نزلت عليه و فقر و سوء حال حلّ به (و من عبرها أنّ المرء يشرف على أمله فيقتطعه حضور أجله) أى يطلع على أمله و يعلو عليه بحيث يكاد يدركه فيحضر إذا أجله و يقتطعه عنه و يحول بينه و بينه (فلا أمل يدرك و لا مؤمّل يترك) ثمّ تعجب من بعض حالات الدّنيا و أطوارها و قال (فسبحان اللَّه ما أغرّ سرورها و أظماء ريّها و أضحى فيئها) أراد بالرّى استتمام لذّتها و بفيئها الرّكون إلى قنياتها و الاعتماد عليها، أى أيّ شي ء أوجب لكون سرورها سببا للغرور، و كون ريّها سببا للعطش و ظلّها سببا للحرارة، فانّ الضحى هي وقت ارتفاع الشّمش و عنده تكون الحرارة.
و نسبة الغرور إلى السرور و الظماء إلى الرّى و الضحى إلى الفى ء باعتبار أنّ سرورها و لذّاتها و زخارفها هي الصّوارف عن العمل للآخرة، و الشواغل عن الاقبال إلى اللَّه سبحانه، فكان سرورها أقوى سبب للاغترار بها، و ريّها من آكد الأسباب للعطش في الآخرة و الحرمان من شراب الأبرار، و فيئها من أقوى الدواعى إلى إيراده في حرّ الجحيم و تصلية الحميم.
و يحتمل أن يكون المراد باظماء ريّها أنّ الارتواء منها لا ينقع و لا ينفع من الغلة، بل يزيد في العطش كمن شرب من الماء المالح و الاجاج، فيكون كناية عن كون الاكثار منها سببا لمزيد الحرص عليها، و كذا يكون المراد باضحاء فيئها أنّ من طلب الراحة فيها اعتمادا على ما جمعها منها لا يجد فيها الراحة و لا ينجو به من حرارة الكبد و فرط المحبة إلى جمعها و تحصيلها و إكثارها، بل هو دائما في التّعب و العطب للتحصيل و الطلب إلى أن يموت فيكفن و يخرج فيدفن (لاجاء يردّ) به أراد به الموت (و لا ماض يرتد) أزاد به الميّت.
ثمّ تعجب ثانية و قال (فسبحان اللَّه ما أقرب الحىّ من الميّت للحاقه به و أبعد الميّت من الحىّ لانقطاعه عنه) و هو من أفصح الكلام و أحسنه في تأدية المرام يعرف ذلك من له دراية في صناعة البيان و إحاطة بلطايف فنّ المعان.
|