لم يخلق الأشياء من أصول أزليّة، و لا من أوائل أبديّة، خلق ما خلق فأقام حدّه، و صوّر ما صوّر فأحسن صورته، ليس لشي ء منه امتناع، و لا له بطاعة شي ء انتفاع، علمه بالأموات الماضين، كعلمه بالأحياء الباقين، و علمه بما في السّموات العلى، كعلمه بما في الأرضين السّفلى.
المعنى
(لم يخلق الأشياء من اصول أزليّة و لا من أوائل أبديّة) قال العلّامة المجلسيّ ردّ على الفلاسفة القائلين بالعقول و الهيولى القديمة.
و قال الشّارح المعتزلي: الردّ في هذا على أصحاب الهيولى و الطّينة الّتي يزعمون قدمها و قيل: إنّ معناه ليس لما خلق أصل أزليّ أبديّ خلق منه من مادّة و صورة كما زعمت الفلاسفة.
و قال الشّارح البحراني: إنّه لم يخلق ما خلق على مثال سبق يكون أصلا.
و محصّل ما ذكروه أنّ خلقه للأشياء على محض الابداع و الاختراع و أن لا مبدء لصنعه إلّا ذاته، إذ لو كان خلقه لها مسبوقا بمادّة أو مثال فان كانا قديمين لزم تعدّد القدماء، و إلّا لزم التسلسل في الأمثلة و الموادّ.
و أوضح هذا المعنى بقوله (بل خلق ما خلق فأقام حدّه و صوّر ما صّور فأحسن صورته) يعني أنّه المخترع لاقامة حدود الأشياء على ما هى عليها من المقادير و الاشكال و النهايات و الاجال و الغايات على أبلغ نظام. و مصوّرها على أحسن اتقان و إحكام (ليس لشي ء منه امتناع) لعموم قدرته و غاية قهره و قوّته (و لا له بطاعة شي ء انتفاع) إذ هو الغنيّ المطلق عمّا عداه و المتعالى عن الافتقار إلى ما سواه، فلو كان منتفعا بطاعة مخلوقاته لزم أن يكون مستكملا بغيره فاقدا للكمال بذاته.
و هو أيضا (علمه بالأموات الماضين كعلمه بالأحياء الباقين) لأنّه لا يتفاوت علمه بالنّسبة إلى الحاضرين الموجودين و الغائبين المعدومين كما يتفاوت في حقّنا و ذلك لأنّ علمنا بالأشياء من الأشياء كما أنا نعلم قبل وجود زيد أنّ زيدا معدوم، فاذا وجد نعلم أنّه موجود ثمّ إذا عدم بعد وجوده نعلم أنّه كان موجودا فقد تغيّر علمنا بتغيّر المعلوم و حصل التّفاوت بين الحالين و منشأ ذلك أنّ علمنا زماني لأنه مستفاد من الموجودات و أحوالها و أمّا اللّه الحىّ القيّوم فهو إنّما يعلم كلّ شي ء جزئيّ أو كليّ من ذاته و لا يجوز أن يكون يعلم الأشياء من الأشياء، و إلّا يلزم أن يستفيد علمه من غيره و يكون لو لا امور من خارج لم يكن عالما فيكون لغيره تأثير في ذاته، و الاصول الالهيّة تبطل ذلك مضافا إلى استلزامه التّغيّر في ذاته بتغيّر معلوماته.
(و) من ذلك علم أيضا أنّ (علمه بما في السّماوات العلى كعلمه بما في الأرضين السّفلى) من دون تفاوت بينهما و أمّا غيره تعالى من أهل الأرض فعلمهم بما في الأرضين أقوى من علمهم بما في السّماوات، كما أنّ أهل السّماوات أعلم بها من أهل الأرض، و منشأ ذلك التّفاوت تفاوت الأمكنة كما أنّ منشأ التفاوت فيما سبق تفاوت الأزمنة قربا و بعدا.
و بالجملة لما كان نسبة ذات الباري إلى جميع أجزاء الزّمان و الزّمانيّات و جميع أصقاع المكان و المكانيّات على حدّ سواء، كان علمه بالنسبة إلى الجميع كذلك
|