فسابقوا رحمكم اللّه إلى منازلكم الّتي أمرتم أن تعمروها، و الّتي رغّبتم فيها، و دعيتم إليها، و استتمّوا نعم اللّه عليكم بالصّبر على طاعته، و المجانبة لمعصيته، فإنّ غدا من اليوم قريب، ما أسرع السّاعات في اليوم (في الأيّام خ ل)، و أسرع الأيام في الشّهور، و أسرع الشّهور في السّنة، و أسرع السّنين في العمر.
الاعراب
الفاء في قوله: فسابقوا، فصيحة و في قوله: فانّ غدا للتعليل.
المعنى
و لما أوصاهم بذكر الموت و أتبعه بشرح حال الأموات تنفيرا عن الدّنيا و تحذيرا من الركون إليها فرّع عليها قوله: (فسابقوا رحمكم اللّه إلى منازلكم التي امرتم أن تعمروها) و هي منازل الاخرة و درجات الجنان، و المسابقة إليها و إلى عمارتها إنما تكون بصالح الأعمال المشار اليه بقول ذى الجلال: «فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ» «وَ سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ».
(و) تلك الجنّة هي (الّتي رغبتم فيها و دعيتم إليها) أى دعاكم اللّه إليها بالاية السابقة الامرة بالمسارعة إليها و بأمثالها و رغّبكم فيها بقوله «قُلْ أَ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ» و بما ضاهاها من الايات.
(و استتمّوا نعم اللّه عليكم بالصبر على طاعته و المجانبة لمعصيته) فانّ الصّبر على الطاعات و التحمل لمشاق العبادات و التجنّب عن المعاصي و السيئات مؤدّية إلى شمول الألطاف الالهية و إفاضة الالاء الدنيويّة و الاخروية، كما أفصحت عنه محكمات الكتاب، و شهدت به روايات الأئمة الأطياب، هذا.
و يحتمل أن يكون المراد من استتمام النعم بما ذكر هو طلب تمامها باضافة النعم الاخرويّة على الدنيويّة و انضمامها إليها، فانّها لا تحصل إلّا بالمواظبة على الحسنات و المجانبة عن السيّئات كما هو مقتضي رحمته الرّحيميّة، و ليست كالنعم الدنيويّة تنعم بها على البرّ و الفاجر باقتضاء الرّحمة الرّحمانية، و قوله: و استتمّوا، لا يخلو من الاشعار بهذا الاحتمال كما هو غير خفىّ على صاحب الذّوق السليم.
ثمّ إنه لما أمر بالاستباق إلى منازل الجنان و باستتمام النعم، علّل حسن الاستباق و المبادرة بقصر المدّة و قلّة زمان الفرصة و قال: (فانّ غدا من اليوم قريب) و كنّى بالغد عن يوم الممات و أوضح قربه بقوله: (ما أسرع السّاعات في اليوم و أسرع الأيّام في الشهور و أسرع الشهور في السّنين و أسرع السّنين في العمر) يعني سرعة مضيّ السّاعات موجبة لسرعة مضيّ اليوم، و سرعة مضيّ الأيام مستلزمة لسرعة انقضاء الشهور، و سرعة انقضائها مستلزمة لسرعة انقضاء السّنين، و سرعة انقضائها مستلزمة لسرعة زوال العمر و الحياة، و سرعة زواله موجبة لقرب زمان حلول الموت المكنى عنه بالغد.
و في الاتيان بلفظة ما المفيدة للتعجّب تأكيدا لبيان تلك السّرعة، و محصله أنّ الساعات مفنية للأيام، و الأيام مفنية للشهور، و الشهور مفنية للسّنين، و السّنين مفنية للعمر و مقربة للأجل.
و هذه الفقرة تفصيل ما أجمله بقوله في الخطبة المأة و الثالثة عشر: فسبحان اللّه ما أقرب الحيّ من الميّت للحاقه به، هذا.
و ما ذكرناه من كون الغد كناية عن زمان الموت أظهر من جعله كناية عن يوم القيامة كما قاله الشارح البحراني.
|