و من خطبة له عليه السّلام و هى الثالثة و التسعون من المختار فى باب الخطب
فتبارك اللّه الّذي لا يبلغه بعد الهم، و لا يناله حسن الفطن، الأوّل الّذي لا غاية له فينتهى، و لا آخر له فينقضي.
اللغة
(تبارك اللّه) من البركة و هو كثرة الخير و زيادته يقال: بارك اللّه لك و فيك و عليك و باركك بالتعدية بنفسه
الاعراب
يجوز في محلّ الموصول أعني قوله عليه السّلام: الذى لا يبلغه، الرفع على كونه تابعا للّه بكونه بدلا منه أو نعتأله، و النصب على تقدير المدح أى أعنى الذى او امدح الذي، و اضافة البعد إلى الهمم و الحسّ الى الفطن لامية و الأوّل إمّا خبر لمبتدأ محذوف أو تابع للّه.
و استشكل الشارح المعتزلي في الفاء العاطفة في قوله عليه السّلام: فينتهى فينقضى، بأنّ الفاء إنّما تدخل فيما إذا كان الثاني غير الأوّل كقولهم ما تأتينا فتحدّثنا و ليس الثاني ههنا غير الأوّل لأنّ الانقضاء هو الآخرية بعينها فكأنّه قال: لا آخر له فيكون له آخر و كذلك القول في اللّفظة الاولى و أجاب بأنّ المراد لا آخر له بالامكان و القوّة فينقضى بالفعل فيما لا يزال، و لا هو أيضا ممكن الوجود فيما مضى فيلزم أن يكون وجوده مسبوقا بالعدم و هو معنى قوله فينتهى، بل هو واجب الوجود في الحالين فيما مضى و في المستقبل و هذان مفهومان متغايران و هما العدم و إمكان العدم فاندفع الاشكال انتهى كلامه أقول: و فيه نظر إذ الغالب في الفاء العاطفة لجملة على جملة على ما صرّح به علماء الأدب أن يكون مضمون الجملة الثّانية عقيب مضمون الجملة الاولى تقول قام زيد فقعد عمرو، و أمّا اشتراط التغاير بين الجملتين فممنوع، و قد تفيد الفاء كون المذكور بعدها كلاما مرتّبا في الذكر على ما قبلها لا أنّ مضمونه عقيب مضمون ما قبلها في الزمان كقوله تعالى: قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى و قوله: وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَ أَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ.
فانّ ذكر ذمّ الشي ء و مدحه يصحّ بعد جرى ذكره و من هذا الباب عطف تفصيل المجمل على المجمل لأنّ موضع ذكر التفصيل بعد الاجمال قال سبحانه: وَ نادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي.
و تقول أجبته فقلت لبيّك، و من هذا علم أنّ شرطية التغاير غير معتبرة فلا حاجة إلى ما تكلّفه في الجواب و إنّما مساق كلام الامام عليه السّلام مساق هذه الآية الشريفه و مساق قوله: وَ كَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً.
فانّ ذكر نفى الانتهاء للشي ء إنّما يصحّ بعد ذكر نفى النهاية و الغاية عنه، و كذا ذكر نفى الانقضاء يحسن بعد ذكر نفى الآخر عنه و سيأتي له مزيد توضيح في بيان المعنى
المعنى
اعلم أنه صدّر هذه الخطبة بتقديس اللَّه سبحانه و تنزيهه عن صفات النّقص و الامكان، و عقّبه بذكر وصف الأنبياء و الأولياء، و ذيّله بالموعظة و النّصيحة، فقال سلام اللّه عليه و آله (فتبارك اللَّه) أى ثبت الخير و البركة عنده و في خزائنه و قيل: أى تعالى اللَّه لأنّ البركة ترجع معناها إلى الامتداد و الزيادة و كلّ ما زاد على الشي ء فقد علاه، و قيل أصله من البروك و هو الثبات فكأنه قال: و البقاء و الدّوام و الثّبات له فهو المستحقّ للتعظيم و الثّناء (الذي لا يبلغه بعد الهمم و لا يناله حسّ الفطن) قد مضى الكلام في شرح هذه الفقرة في الفصل الثّاني من فصول الخطبة الاولى و أقول هنا: إنّ نعوت الجلال و صفات الكمال للّه سبحانه المتعال لمّا كانت غير متناهية و لا محدودة نبّه عليه السّلام بذلك على عدم إمكان الوصول إليها و تعذّر إدراكها، إذ كلّ مدرك متناه محدود، فالمعنى أنه تعالى لا يبلغه الهمم و القصود على بعدها و علوّها، و لا يصل إليه إدراك الفطن و إن ذكت و اشتدّت في ذكائها و حدّتها و سرعة انتقالها من المبادي إلى المطالب، بل كلّ سابح في بحار جلاله غريق و كلّ مريد للوصول إلى أنوار جماله حريق.
(الأوّل الذي لا غاية له فينتهي و لا آخر له فينقضي) تقدّم تحقيق الكلام في أوليّته و آخريّته سبحانه في شرح الخطبة الرّابعة و السّتين و الفصل الأوّل من فصول الخطبة التسعين بما لا مزيد عليه، و المراد هنا أنه تعالى أول الأشياء لا غاية له في البداية فينتهي إليها، و لا آخر له في النهاية فيكون له الانصرام و الانقضاء عندها، بل هو أزليّ باق غير منقطع الوجود بداية و نهاية، و برهان ذلك أنّ الغاية و النهاية من عوارض الأجسام ذوات الأوضاع و المقادير تعرض لها بالذّات، و للواحقها كالأزمنة و الحركات، و للامور المتعلّقة بها كالقوى و الكيفيات بالعرض، و الأول سبحانه ليس بجسم و لا جسماني و لا متعلّق به ضربا من التّعلّق فهو منزّه عن الحدّ و النهاية.
|