173: كَمْ مِنْ أَكْلَةٍ تَمْنَعُ أَكَلَاتٍ أخذ هذا المعنى بلفظه الحريري فقال في المقامات- رب أكلة هاضت الآكل و منعته مآكل- و أخذه أبو العلاف الشاعر فقال في سنوره الذي يرثيه-
أردت أن تأكل الفراخ و لا يأكلك الدهر أكل مضطهد
يا من لذيذ الفراخ أوقعه
ويحك هلا قنعت بالقدد
كم أكلة خامرت حشا شره فأخرجت روحه من الجسد
- .نوادر المكثرين من الأكل
و كان ابن عياش المنتوف يمازح المنصور أبا جعفر- فيحتمله على أنه كان جدا كله- فقدم المنصور لجلسائه يوما بطة كثيرة الدهن- فأكلوا و جعل يأمرهم بالازدياد من الأكل لطيبها- فقال ابن عياش قد علمت غرضك يا أمير المؤمنين- إنما تريد أن ترميهم منها بالحجاب يعني الهيضة- فلا يأكلوا إلى عشرة أيام شيئا- . و في المثل أكلة أبي خارجة- و قال أعرابي و هو يدعو الله بباب الكعبة- اللهم ميتة كميتة أبي خارجة- فسألوه فقال أكل بذجا و هو الحمل- و شرب وطبا من اللبن- و يروى من النبيذ و هو كالحوض من جلود ينبذ فيه- و نام في الشمس فمات فلقي الله تعالى شبعان ريان دفيئا- . و العرب تعير بكثرة الأكل- و تعيب بالجشع و الشره و النهم- و قد كان فيهم قوم موصوفون بكثرة الأكل منهم معاوية- قال أبو الحسن المدائني في كتاب الأكلة- كان يأكل في اليوم أربع أكلات أخراهن عظماهن- ثم يتعشى بعدها بثريدة عليها بصل كثير- و دهن كثير قد شغلها- و كان أكله فاحشا- يأكل فيلطخ منديلين أو ثلاثة قبل أن يفرغ- و كان يأكل حتى يستلقي و يقول- يا غلام ارفع فلأني و الله ما شبعت و لكن مللت- . و كان عبيد الله بن زياد يأكل في اليوم خمس أكلات- أخراهن خبية بعسل- و يوضع بين يديه بعد أن يفرغ الطعام عناق أو جدي- فيأتي عليه وحده- . و كان سليمان بن عبد الملك المصيبة العظمى في الأكل- دخل إلى الرافقة فقال لصاحب طعامه- أطعمنا اليوم من خرفان الرافقة- و دخل الحمام فأطال- ثم خرج فأكل ثلاثين خروفا بثمانين رغيفا- ثم قعد على المائدة فأكل مع الناس كأنه لم يأكل شيئا- .
و قال الشمردل وكيل آل عمرو بن العاص- قدم سليمان الطائف و قد عرفت استجاعته- فدخل هو و عمر بن عبد العزيز و أيوب ابنه إلى بستان لي هناك- يعرف بالرهط- فقال ناهيك بمالك هذا لو لا جرار فيه- قلت يا أمير المؤمنين إنها ليست بجرار- و لكنها جرار الزبيب فضحك- ثم جاء حتى ألقى صدره على غصن شجرة هناك- و قال يا شمردل أ ما عندك شي ء تطعمني- و قد كنت استعددت له- فقلت بلى و الله عندي جدي كانت تغدو عليه حافلة- و تروح عليه أخرى- فقال عجل به فجئته به مشويا كأنه عكة سمن- فأكله لا يدعو عليه عمر و لا ابنه حتى إذا بقي فخذ- قال يا عمر هلم قال إني صائم- ثم قال يا شمردل أ ما عندك شي ء قلت بلى- دجاجات خمس كأنهن رئلان النعام فقال هات- فأتيته بهن فكان يأخذ برجل الدجاجة حتى يعري عظامها- ثم يلقيها حتى أتى عليهن- ثم قال ويحك يا شمردل أ ما عندك شي ء- قلت بلى سويق كأنه قراضة الذهب ملتوت بعسل و سمن- قال هلم فجئته بعس تغيب فيه الرأس- فأخذه فلطم به جبهته حتى أتى عليه- فلما فرغ تجشأ كأنه صارخ في جب ثم التفت إلى طباخه- فقال ويحك أ فرغت من طبيخك قال نعم- قال و ما هو قال نيف و ثمانون قدرا- قال فأتني بها قدرا قدرا فعرضها عليه- و كان يأكل من كل قدر لقمتين أو ثلاثا- ثم مسح يده و استلقى على قفاه و أذن للناس- و وضعت الموائد فقعد فأكل مع الناس كأنه لم يطعم شيئا- . قالوا و كان الطعام الذي مات منه سليمان- أنه قال لديراني كان صديقه قبل الخلافة- ويحك لا تقطعني ألطافك- التي كنت تلطفني بها على عهد الوليد أخي- قال فأتيته يوما بزنبيلين كبيرين- أحدهما بيض مسلوق و الآخر تين- فقال لقمنيه- فكنت أقشر البيضة و أقرنها بالتينة و ألقمه- حتى أتى على الزنبيلين فأصابته تخمة عظيمة و مات و يحكى أن عمرو بن معديكرب أكل عنزا رباعية- و فرقا من ذرة و الفرق ثلاثة آصع- و قال لامرأته عالجي لنا هذا الكبش حتى أرجع- فجعلت توقد تحته و تأخذ عضوا عضوا فتأكله- فاطلعت فإذا ليس في القدر إلا المرق- فقامت إلى كبش آخر فذبحته و طبخته- ثم أقبل عمرو فثردت له في جفنة العجين- و كفأت القدر عليها- فمد يده و قال يا أم ثور دونك الغداء قالت قد أكلت- فأكل الكبش كله ثم اضطجع- و دعاها إلى الفراش فلم يستطع الفعل- فقالت له كيف تستطيع و بيني و بينك كبشان- .
و قد روي هذا الخبر عن بعض العرب- و قيل إنه أكل حوارا و أكلت امرأته حائلا- فلما أراد أن يدنو منها و عجز قالت له- كيف تصل إلي و بيني و بينك بعيران- . و كان الحجاج عظيم الأكل- قال مسلم بن قتيبة كنت في دار الحجاج مع ولده و أنا غلام- فقيل قد جاء الأمير فدخل الحجاج فأمر بتنور فنصب- و أمر رجلا أن يخبز له خبز الماء و دعا بسمك فأتوه به- فجعل يأكل حتى أكل ثمانين جاما من السمك- بثمانين رغيفا من خبز الملة- . و كان هلال بن أشعر المازني موصوفا بكثرة الأكل- أكل ثلاث جفان ثريد و استسقى- فجاءوه بقربة مملوءة نبيذا- فوضعوا فمها في فمه حتى شربها بأسرها- . و كان هلال بن أبي بردة أكولا- قال قصابه جاءني رسوله سحرة فأتيته- و بين يديه كانون فيه جمر و تيس ضخم- فقال دونك هذا التيس فاذبحه فذبحته و سلخته- فقال أخرج هذا الكانون إلى الرواق- و شرح اللحم و كبه على النار- فجعلت كلما استوى شي ء قدمته إليه- حتى لم يبق من التيس إلا العظام و قطعة لحم على الجمر- فقال لي كلها فأكلتها ثم شرب خمسة أقداح- و ناولني قدحا فشربته فهزني- و جاءته جارية ببرمة فيها ناهضان و دجاجتان و أرغفة- فأكل ذلك كله- ثم جاءته جارية أخرى بقصعة مغطاة لا أدري ما فيها- فضحك إلى الجارية فقال ويحك لم يبق في بطني موضع لهذا- فضحكت الجارية و انصرفت- فقال لي الحق بأهلك- .
و كان عنبسة بن زياد أكولا نهما- فحدث رجل من ثقيف قال دعاني عبيد الله الأحمر- فقلت لعنبسة هل لك يا ذبحة- و كان هذا لقبة في إتيان الأحمر- فمضينا إليه فلما رآه عبيد الله رحب به و قال للخباز- ضع بين يدي هذا مثل ما تضع بين يدي أهل المائدة كلهم- فجعل يأتيه بقصعة و أهل المائدة بقصعة و هو يأتي عليها- ثم أتاه بجدي فأكله كله- و نهض القوم فأكل كل ما تخلف على المائدة- و خرجنا فلقينا خلف بن عبد الله القطامي- فقال له يا خلف أ ما تغديني يوما- فقلت لخلف ويحك لا تجده مثل اليوم- فقال له ما تشتهي قال تمرا و سمنا- فانطلق به إلى منزله فجاء بخمس جلال تمرا و جرة سمنا- فأكل الجميع و خرج- فمر برجل يبني داره و معه مائة رجل- و قد قدم لهم سمنا و تمرا فدعاه إلى الأكل معهم- فأكل حتى شكوه إلى صاحب الدار- ثم خرج فمر برجل بين يديه زنبيل- فيه خبز أرز يابس بسمسم و هو يبيعه- فجعل يساومه و يأكل حتى أتى على الزنبيل- فأعطيت صاحب الزنبيل ثمن خبزة- . و كان ميسرة الرأس أكولا- حكي عنه عند المهدي محمد بن المنصور أنه يأكل كثيرا- فاستدعاه و أحضر فيلا- و جعل يرمي لكل واحد منهما رغيفا- حتى أكل كل واحد منهما تسعة و تسعين رغيفا- و امتنع الفيل من تمام المائة- و أكل ميسرة تمام المائة و زاد عليها- . و كان أبو الحسن العلاف والد أبي بكر بن العلاف- الشاعر المحدث أكولا- دخل يوما على الوزير أبي بكر محمد المهلبي- فأمر الوزير أن يؤخذ حماره فيذبح و يطبخ بماء و ملح- ثم قدم له على مائدة الوزير فأكل و هو يظنه لحم البقر- و يستطيبه حتى أتى عليه- فلما خرج ليركب طلب الحمار فقيل له في جوفك- . و كان أبو العالية أكولا- نذرت امرأة حامل إن أتت بذكر تشبع أبا العالية خبيصا- فولدت غلاما فأحضرته فأكل سبع جفان خبيصا- ثم أمسك و خرج- فقيل له إنها كانت نذرت أن تشبعك- فقال و الله لو علمت ما شبعت إلى الليل
( شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد)، ج 18 ، صفحه ى 397-402)
|