295 وَ قَالَ ع: كَانَ لِي فِيمَا مَضَى أَخٌ فِي اللَّهِ- وَ كَانَ يُعَظِّمُهُ فِي عَيْنِي صِغَرُ الدُّنْيَا فِي عَيْنِهِ- وَ كَانَ خَارِجاً مِنْ سُلْطَانِ بَطْنِهِ- فَلَا يَتَشَهَّى مَا لَا يَجِدُ وَ لَا يُكْثِرُ إِذَا وَجَدَ- وَ كَانَ أَكْثَرَ دَهْرِهِ صَامِتاً- فَإِنْ قَالَ بَذَّ الْقَائِلِينَ وَ نَقَعَ غَلِيلَ السَّائِلِينَ- وَ كَانَ ضَعِيفاً مُسْتَضْعَفاً- فَإِنْ جَاءَ الْجِدُّ فَهُوَ لَيْثٌ عَادٍ وَ صِلُّ وَادٍ- لَا يُدْلِي بِحُجَّةٍ حَتَّى يَأْتِيَ قَاضِياً- كَانَ لَا يَلُومُ أَحَداً- عَلَى مَا لَا يَجِدُ الْعُذْرَ فِي مِثْلِهِ حَتَّى يَسْمَعَ اعْتِذَارَهُ- وَ كَانَ لَا يَشْكُو وَجَعاً إِلَّا عِنْدَ بُرْئِهِ- وَ كَانَ يَفْعَلُ مَا يَقُولُ وَ لَا يَقُولُ مَا لَا يَفْعَلُ- وَ كَانَ إِنْ غُلِبَ عَلَى الْكَلَامِ لَمْ يُغْلَبْ عَلَى السُّكُوتِ- وَ كَانَ عَلَى أَنْ يَسْمَعَ أَحْرَصَ مِنْهُ عَلَى أَنْ يَتَكَلَّمَ- وَ كَانَ إِذَا بَدَهَهُ أَمْرَانِ- نَظَرَ أَيُّهُمَا أَقْرَبُ إِلَى الْهَوَى فَخَالَفَهُ- فَعَلَيْكُمْ بِهَذِهِ الْخَلَائِقِ فَالْزَمُوهَا وَ تَنَافَسُوا فِيهَا- فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِيعُوهَا- فَاعْلَمُوا أَنَّ أَخْذَ الْقَلِيلِ خَيْرٌ مِنْ تَرْكِ الْكَثِيرِ قد اختلف الناس في المعني بهذا الكلام- و من هو هذا الأخ المشار إليه- فقال قوم هو رسول الله ص- و استبعده قوم لقوله و كان ضعيفا مستضعفا- فإن النبي ص لا يقال في صفاته مثل هذه الكلمة-
و إن أمكن تأويلها على لين كلامه و سماحة أخلاقه- إلا أنها غير لائقة به ع- . و قال قوم هو أبو ذر الغفاري و استبعده قوم- لقوله فإن جاء الجد فهو ليث عاد و صل واد- فإن أبا ذر لم يكن من الموصوفين بالشجاعة- و المعروفين بالبسالة- . و قال قوم هو المقداد بن عمرو- المعروف بالمقداد بن الأسود- و كان من شيعة علي ع المخلصين- و كان شجاعا مجاهدا حسن الطريقة- و قد ورد في فضله حديث صحيح مرفوع- . و قال قوم أنه ليس بإشارة إلى أخ معين- و لكنه كلام خارج مخرج المثل- و عادة العرب جارية بمثل ذلك- مثل قولهم في الشعر فقلت لصاحبي و يا صاحبي- و هذا عندي أقوى الوجوه
نبذ من الأقوال الحكمية في حمد القناعة و قلة الأكل
و قد مضى القول في صغر الدنيا في عين أهل التحقيق- فأما سلطان البطن- و مدح الإنسان بأنه لا يكثر من الأكل إذا وجد أكلا- و لا يشتهي من الأكل ما لا يجده- فقد قال الناس فيه فأكثروا- . قال أعشى باهلة يرثي المنتشر بن وهب-
طاوي المصير على العزاء منصلت بالقوم ليلة لا ماء و لا شجر
تكفيه فلذة لحم إن ألم بها
من الشواء و يروي شربه الغمر
و لا يباري لما في القدر يرقبه و لا تراه أمام القوم يفتقر
لا يغمز الساق من أين و لا وصب و لا يعض على شرسوفه الصفر
- . و قال الشنفري
و أطوي على الخمص الحوايا كما انطوت خيوطة ماري تغار و تفتل
و إن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن
بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل
و ما ذاك إلا بسطة عن تفضل عليهم و كان الأفضل المتفضل
- . و قال بعضهم لابنه يا بني عود نفسك الأثرة- و مجاهدة الهوى و الشهوة- و لا تنهش نهش السباع- و لا تقضم قضم البراذين- و لا تدمن الأكل إدمان النعاج- و لا تلقم لقم الجمال- إن الله جعلك إنسانا- فلا تجعل نفسك بهيمة و لا سبعا- و احذر سرعة الكظة و داء البطنة- فقد قال الحكيم- إذا كنت بطنا فعد نفسك من الزمنى- . و قال الأعشى
و البطنة يوما تسفه الأحلاما
- . و اعلم أن الشبع داعية البشم- و البشم داعية السقم و السقم داعية الموت- و من مات هذه الميتة فقد مات موتة لئيمة- و هو مع هذا قاتل نفسه- و قاتل نفسه ألوم من قاتل غيره- يا بني و الله ما أدى حق السجود و الركوع ذو كظة- و لا خشع لله ذو بطنة و الصوم مصحة- و لربما طالت أعمار الهند و صحت أبدان العرب- و لله در الحارث بن كلدة- حيث زعم أن الدواء هو الأزم- و أن الداء إدخال الطعام في أثر الطعام- يا بني لم صفت أذهان الأعراب- و صحت أذهان الرهبان مع طول الإقامة في الصوامع- حتى لم تعرف وجع المفاصل و لا الأورام- إلا لقلة الرزء و وقاحة الأكل- و كيف لا ترغب في تدبير- يجمع لك بين صحة البدن و ذكاء الذهن- و صلاح المعاد و القرب و عيش الملائكة- يا بني لم صار الضب أطول شي ء ذماء- إلا لأنه يتبلغ بالنسيم- و لم زعم رسول الله ص أن الصوم وجاء- إلا ليجعله حجابا دون الشهوات- فافهم تأديب الله و رسوله- فإنهما لا يقصدان إلا مثلك- يا بني إني قد بلغت تسعين عاما ما نقص لي سن- و لا انتشر لي عصب و لا عرفت دنين أنف- و لا سيلان عين و لا تقطير بول- ما لذلك علة إلا التخفيف من الزاد- فإن كنت تحب الحياة فهذه سبيل الحياة- و إن كنت تريد الموت فلا يبعد الله إلا من ظلم- . و كان يقال البطنة تذهب الفطنة- . و قال عمرو بن العاص لأصحابه يوم حكم الحكمان- أكثروا لأبي موسى من الطعام الطيب- فو الله ما بطن قوم قط إلا فقدوا عقولهم أو بعضها- و ما مضى عزم رجل بات بطينا- .
و كان يقال أقلل طعاما تحمد مناما و دعا عبد الملك بن مروان رجلا إلى الغداء- فقال ما في فضل- فقال إني أحب الرجل يأكل حتى لا يكون فيه فضل- فقال يا أمير المؤمنين عندي مستزاد- و لكني أكره أن أصير- إلى الحال التي استقبحها أمير المؤمنين- . و كان يقال- مسكين ابن آدم أسير الجوع صريع الشبع- . و سأل عبد الملك أبا الزعيرعة فقال- هل أتخمت قط قال لا قال و كيف- قال لأنا إذا طبخنا أنضجنا و إذا مضغنا دققنا- و لا نكظ المعدة و لا نخليها- . و كان يقال من المروءة أن يترك الإنسان الطعام- و هو بعد يشتهيه- . و قال الشاعر
فإن قراب البطن يكفيك ملؤه و يكفيك سوآت الأمور اجتنابها
- . و قال عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي- كان عمي يقول لي لا تخرج يا بني من منزلك-
حتى تأخذ حلمك يعني تتغذى- فإذا أخذت حلمك فلا تزدد إليه حلما- فإن الكثرة تئول إلى قلة- و
في الحديث المرفوع ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطن- بحسب الرجل من طعامه ما أقام صلبه- و أما إذا أبيت فثلث طعام- و ثلث شراب و ثلث نفس
و روى حذيفة عن النبي ص من قل طعمه صح بطنه و صفا قلبه- و من كثر طعمه سقم بطنه و قسا قلبه
و عنه ص لا تميتوا القلوب بكثرة الطعام و الشراب- فإن القلب يموت بهما- كالزرع يموت إذا أكثر عليه الماء
و روى عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال أكلت يوما ثريدا و لحما سمينا- ثم أتيت رسول الله و أنا أتجشأ- فقال احبس جشأك أبا جحيفة- إن أكثركم شبعا في الدنيا أكثركم جوعا في الآخرة- قال فما أكل أبو جحيفة بعدها مل ء بطنه- إلى أن قبضه الله
و أكل علي ع قليلا من تمر دقل- و شرب عليه ماء و أمر يده على بطنه و قال- من أدخله بطنه النار فأبعده الله ثم تمثل-
فإنك مهما تعط بطنك سؤله و فرجك نالا منتهى الذم أجمعا
و كان ع يفطر في رمضان الذي قتل فيه- عند الحسن ليلة و عند الحسين ليلة- و عند عبد الله بن جعفر ليلة- لا يزيد على اللقمتين أو الثلاث- فيقال له فيقول إنما هي ليال قلائل- حتى يأتي أمر الله و أنا خميص البطن- فضربه ابن ملجم لعنه الله تلك الليلة
- . و قال الحسن لقد أدركت أقواما- ما يأكل أحدهم إلا في ناحية بطنه- ما شبع رجل منهم من طعام حتى فارق الدنيا- كان يأكل فإذا قارب الشبع أمسك- . و أنشد المبرد
فإن امتلاء البطن في حسب الفتى قليل الغناء و هو في الجسم صالح
- . و قال عيسى ع يا بني إسرائيل لا تكثروا الأكل- فإنه من أكثر من الأكل أكثر من النوم- و من أكثر النوم أقل الصلاة- و من أقل الصلاة كتب من الغافلين
و قيل ليوسف ع- ما لك لا تشبع و في يديك خزائن مصر- قال إني إذا شبعت نسيت الجائعين
- . و قال الشاعر
و أكلة أوقعت في الهلك صاحبها كحبة القمح دقت عنق عصفور
لكسرة بجريش الملح آكلها
ألذ من تمرة تحشى بزنبور
- . و وصف لسابور ذي الأكتاف- رجل من إصطخر للقضاء فاستقدمه- فدعاه إلى الطعام- فأخذ الملك دجاجة من بين يديه فنصفها- و جعل نصفها بين يدي ذلك الرجل- فأتى عليه قبل أن يفرغ الملك من أكل النصف الآخر- فصرفه إلى بلده و قال- إن سلفنا كانوا يقولون- من شره إلى طعام الملك- كان إلى أموال الرعية أشره- . قيل لسميرة بن حبيب- إن ابنك أكل طعاما فأتخم و كاد يموت- فقال و الله لو مات منه ما صليت عليه-
أنس يرفعه إن من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت
- . دخل عمر على عاصم ابنه و هو يأكل لحما- فقال ما هذا قال قرمنا إليه- قال أ و كلما قرمت إلى اللحم أكلته- كفى بالمرء شرها أن يأكل كل ما يشتهي- .
أبو سعيد يرفعه استعينوا بالله من الرعب
قالوا هو الشره و يقال الرعب شؤم-
أنس يرفعه أصل كل داء البردة
- قالوا هي التخمة- و قال أبو دريد العرب تعير بكثرة الأكل- و أنشد
لست بأكال كأكل العبد و لا بنوام كنوم الفهد
- .و قال الشاعر
إذا لم أزر إلا لآكل أكلة فلا رفعت كفي إلي طعامي
فما أكلة إن نلتها بغنيمة
و لا جوعة إن جعتها بغرام
- . ابن عباس كان رسول الله ص يبيت طاويا ليالي- ما له و لأهله عشاء- و كان عامة طعامه الشعير
و قالت عائشة و الذي بعث محمدا بالحق ما كان لنا منخل- و لا أكل رسول الله ص خبزا منخولا- منذ بعثه الله إلى أن قبض- قالوا فكيف كنتم تأكلون دقيق الشعير- قالت كنا نقول أف أف
أنس ما أكل رسول الله ص رغيفا محورا- إلى أن لقي ربه عز و جل
أبو هريرة ما شبع رسول الله ص و أهله- ثلاثة أيام متوالية من خبز حنطة- حتى فارق الدنيا
و روى مسروق قال دخلت على عائشة و هي تبكي- فقلت ما يبكيك- قالت ما أشاء أن أبكي إلا بكيت- مات رسول الله ص- و لم يشبع من خبز البر- في يوم مرتين- ثم انهارت علينا الدنيا- . حاتم الطائي
و إني لأستحيي صحابي أن يروا مكان يدي من جانب الزاد أقرعا
أقصر كفي أن تنال أكفهم
إذا نحن أهوينا و حاجاتنا معا
أبيت خميص البطن مضطمر الحشا حياء أخاف الضيم أن أتضلعا
فإنك إن أعطيت نفسك سؤلها- و فرجك نالا منتهى الذم أجمعا
- . فأما قوله ع كان لا يتشهى ما لا يجد- فإنه قد نهى أن يتشهى الإنسان ما لا يجد- و قالوا إنه دليل على سقوط المروءة- . و قال الأحنف جنبوا مجالسنا- ذكر تشهي الأطعمة و حديث النكاح- . و قال الجاحظ جلسنا في دار فجعلنا نتشهى الأطعمة- فقال واحد و أنا أشتهي سكباجا كثيرة الزعفران- و قال آخر أنا أشتهي طباهجة ناشفة- و قال آخر أنا أشتهي هريسة كثيرة الدارصيني- و إلى جانبنا امرأة بيننا و بينها بئر الدار- فضربت الحائط و قالت أنا حامل- فأعطوني مل ء هذه الغضارة من طبيخكم- فقال ثمامة جارتنا تشم رائحة الأماني
( . شرح نهج البلاغه (ابن ابی الحدید) ج 19، ص 183 - 190)
|