و من كلام له عليه السّلام و هو المأة و السادس عشر من المختار فى باب الخطب.
فلا أموال بذلتموها للّذي رزقها، و لا أنفس خاطرتم بها للّذي خلقها، تكرمون باللّه على عباده، و لا تكرمون اللّه في عباده، فاعتبروا بنزولكم منازل من كان قبلكم، و انقطاعكم عن أوصل إخوانكم.
اللغة
(خاطرتم بها) من المخاطرة و هى ارتكاب ما فيه خطر و هلاك و (تكرمون) الأوّل من باب فعل و الثاني من باب افعل يقال كرم الرجل كرما من باب حسن عزّ و نفس فهو كريم.
الاعراب
أموال و أنفس منصوبان على الاشتغال، و اللّام في الذي رزقها تحتمل الصّلة و التعليل، و في للّذي خلقها للتّعليل لا غير كما هو غير خفىّ، و انقطاعكم عطف على نزولكم.
المعنى
اعلم أنّ مدار هذا الفصل على التوبيخ بالبخل بالأموال و الأنفس، و الأمر بالاعتبار بتقلّبات الدّهر و تغيّرات الزّمان فلا مهم أوّلا بترك بذل الأموال (فلا أموال بذلتموها للّذي رزقها) لا يخفى ما في التّعبير بهذه العبارة من اللطف و النكتة و هو أنّ التّعبير بقوله: للّذي رزقها فيه من زيادة تقرير الغرض المسوق له الكلام ما ليس في التعبير بقوله للَّه كما في قوله:
- أعبّاد المسيح يخاف صحبيو نحن عبيد من خلق المسيحا
فانه أدلّ على عدم خوفهم النصارى من أن يقول نحن عبيد اللَّه، و ذلك لأنّ غرضه عليه السّلام لومهم و توبيخهم على البخل و الامساك عن بذل الأموال و التعبير بالموصول آكد في افادة ذلك المطلوب لدلالته على اتّصافهم بغاية البخل حتى انّهم يمسكون أموالهم عن معطيها و رازقها فضلا عن غيره، فيستحقّون بذلك غاية اللّوم و المذمّة و مثله قوله (و لا أنفس خاطرتم بها للّذي خلقها) فانّه أدلّ على البخل بالأنفس و أثبت لذلك الغرض، فانهم إذا لم يخاطروا بأنفسهم و لم يلقوا بها إلى المهالك لرضاء الخالق مع كونه أحقّ و أولى بها منهم، فكيف لغيره ثمّ أكّد التّوبيخ بقوله (تكرمون باللَّه على عباده و لا تكرمون اللَّه في عباده) و لذلك وصل هذا الكلام بما سبق و لم يفصل بالعاطف، لكون ذلك أو فى بتأدية المراد ممّا سبق، يعني أنّكم تتنافسون و تظهرون العزّو الشّرف على عباد اللَّه تعالى باللَّه سبحانه أى بما خوّلكم و أعطاكم و منحكم من النّعم الدّنيويّة و الاخروية و لا تكرمون اللَّه و لا تطيعونه في الاحسان إلى عباده و الافضال عليهم، بل بنعمته تبخلون، و عن عباده تمسكون (فاعتبروا بنزولكم منازل من كان قبلكم) من طحنتهم الآجال و ضاق بهم المجال و ارتهنوا بالأعمال كما قال عزّ من قائل: وَ سَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَ تَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَ ضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ.
(و انقطاعكم عن أوصل اخوانكم) حتى انتقلوا إلى ضيق المضجع و وحشة المرجع، فستصيرون مثلهم و تنزلون منزلتهم، فاسلكوا مسلك العاجلة حميدا، و قدّموا زاد الآجلة سعيدا.
|