فإن أبيتم إلّا أن تزعموا أنّي أخطأت و ضللت، فلم تضلّلون عامّة أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله بضلالي، و تأخذونهم بخطإي، و تكفّرونهم بذنوبي. سيوفكم على عواتقكم تضعونها مواضع البرء و السّقم، و تخلطون من أذنب بمن لم يذنب. و قد علمتم أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رجم الزّاني المحصن ثمّ صلّى عليه ثمّ ورّثه أهله. و قتل القاتل و ورّث ميراثه أهله. و قطع السّارق و جلد الزّاني غير المحصن. ثمّ قسم عليهما من الفي ء و نكحا المسلمات، فأخذهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بذنوبهم، و أقام حقّ اللّه فيهم، و لم يمنعهم سهمهم من الإسلام، و لم يخرج أسماءهم من بين أهله. ثمّ أنتم شرار النّاس، و من رمى به الشّيطان مراميه، و ضرب به تيهه.
اللغة:
المحصن- بفتح الصاد- المتزوج. و الفي ء: الغنيمة. و ضرب به في التيه: سلك به في مسالك الضياع و الهلاك.
الإعراب:
ضمير التثنية في نكحا يعود الى السارق و الزاني
المعنى:
المعروف عن مذهب الخوارج أنهم يكفّرون أهل الكبائر دون الصغائر، و لكن عبارة المواقف للإيجي تدل انهم لا يفرقون بين الذنوب الكبيرة و الصغيرة، و هذا نصها: «قالت الخوارج كل معصية كفر» و كلمة «كل» تفيد العموم و استخراج الأفراد، و الشيخ أبو زهرة على هذا الرأي في كتاب المذاهب الاسلامية، بل ألزم الخوارج بإشكال لا مفر لهم منه، و هو أن تكفيرهم للإمام بسبب التحكيم معناه ان كل من يخالفهم في الرأي فهو كافر يجب قتله، و ان اجتهد فأخطأ و هذه عبارة الشيخ في كتاب المذاهب الاسلامية: «يرى الخوارج تكفير أهل الذنوب، و لم يفرقوا بين ذنب و ذنب، بل اعتبروا الخطأ في الرأي ذنبا إذا أدى الى مخالفة وجه الصواب في نظرهم، و لذا كفروا عليا بالتحكيم مع انه لم يقدم عليه مختارا.. فلجاجهم في تكفيره دليل على انهم يرون الخطأ في الاجتهاد يخرج عن الدين» و بناء على قولهم هذا يجب حصر الاسلام بالخوارج وحدهم، و باقي الناس كلهم ضالّون و ملحدون، بل بناء على هذا القول يجب تخطئة النبي (ص) في قوله المتواتر: «اذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، و ان اجتهد فأخطأ فله أجر واحد».
(فإن أبيتم الا أن تزعموا اني أخطأت و ضللت). الخطاب للخوارج الذين كفروا الإمام بسبب التحكيم، و قوله: «أخطأت و ضللت» بزعم الخوارج يؤيد ما نسبه اليهم الشيخ أبو زهرة من انهم يكفّرون من خالفهم في الرأي و الاجتهاد.
و في شرح ابن أبي الحديد «انهم يعتبرون دار الاسلام دار كفر لا يجوز الكف عن أحد من أهلها.. و ان قوما منهم كانوا يقتلون الأطفال حتى البهائم». و قد احتج الإمام عليهم بما يلي: (فلم تضللون عامة أمة محمد (ص) بضلالي). لنفترض اني أخطأت كما تزعمون فأي ذنب للأبرياء حتى قطعتم عليهم الطريق، و قتلتموهم ظلما و عدوانا: (سيوفكم على عواتقكم تضعونها مواضع البرء و السقم، و تخلطون من أذنب بمن لم يذنب) و اللّه سبحانه يقول: «وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى - 164 الأنعام».
فكيف تكفّرون باسم الاسلام من نص القرآن على براءته ثم لنفترض أني عصيت كما تزعمون فإن المعصية لا تستدعي الكفر و الخروج عن دين الإسلام، و الدليل على ذلك أن رسول اللّه كان يعامل مرتكب الكبيرة معاملة المسلم، و يجري عليه جميع أحكام الاسلام.. ثم ذكر الإمام أربعة أمثلة تشهد على ان الذنب و ان كبر لا يخرج المسلم به من دينه الى الكفر و الالحاد.
1- (و قد علمتم أن رسول اللّه (ص) رجم الزاني المحصن، ثم صلى عليه، ثم ورثه أهله). اتفق المسلمون على ان المتزوج الذي يملك فرجا يغدو عليه و يروح متى شاء ثم زنا- يقام عليه حد الرجم، و لكنه لا يخرج بذلك عن الإسلام، و قد صلى عليه النبي، و ورثه من قريبه المسلم، و هدي النبي (ص) هو الحجة و الدليل. و كلنا يعلم ان الزنا من الكبائر.
2- (و قتل القاتل و ورث ميراثه أهله). و أيضا ثبت عن رسول اللّه (ص) أنه حكم بقتل من قتل مؤمنا متعمدا، و قسم ميراثه بين أقربائه المسلمين، و القتل من أكبر الكبائر، و لو كان مستوجبا للكفر لما ورث المسلم شيئا من تركة القاتل، لأن المسلم لا يرث الكافر عند المذاهب الأربعة، و لا عند الخوارج- كما يظهر من رد الإمام و نقضه عليهم- و إن كان المسلم يرث من الكافر «عند سعيد بن المسيب و مسروق و عبد اللّه بن معقل و الشعبي و النخعي و معمر، و روي ذلك عن عمر و معاذ» كما جاء في كتاب «المغني» لابن قدامة ج 6 كتاب الفرائض.
3 و 4- (قطع السارق و جلد الزاني غير المحصن، ثم قسم عليهما من الفي ء، و نكحا المسلمات). و أيضا ثبت ان رسول اللّه قطع يد السارق، و جلد الزاني غير المتزوج بالشروط المذكورة في كتب الفقه، ثم أجرى عليهما حكم الاسلام من المناكحة و الميراث و مشاركة المسلمين في الخراج و الغنيمة، و الصلاة على الجنازة و الدفن في مقابر المسلمين، و معنى هذا ان الذنب يوجب الفسق دون الكفر (فأخذهم رسول اللّه (ص) بذنوبهم) و هي الزنا و قتل العمد و السرقة في غير سنة المجاعة (و أقام حق اللّه فيهم)، و هو حد القتل على القاتل عمدا، و الرجم على الزاني المحصن، و الجلد على غير المحصن، و القطع على السارق (و لم يمنعهم سهمهم من الاسلام، و لم يخرج أسماءهم من بين أهله) بل أبقاهم على دين الاسلام، و أعطاهم كل ما للمسلمين من حق (ثم أنتم شرار الناس و من رمى به الشيطان إلخ).. يشير الى ان الخوارج من الذين يصدق عليهم قوله تعالى: «اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ 19 المجادلة».
|