الفصل الثاني
منها: آثروا عاجلا، و أخّروا آجلا و تركوا صافيا و شربوا آجنا، كأنّي أنظر إلى فاسقهم و قد صحب المنكر فألفه، و بسأبه و وافقه، حتّى شابت عليه مفارقه و صبغت به خلائقه، ثمّ أقبل مزبدا كالتّيّار لا يبالي ما غرق، أو كوقع النّار في الهشيم لا يحفل ما حرق
اللغة
(الآجن) الماء المتغيّر الطّعم و اللّون و (بسأ) به كجعل و فرح بسئا و بسئا و بسوءا أنس و (المفارق) جمع المفرق و زان مجلس و مقعد وسط الرأس، و هو الذي يفرق فيه الشعر و (الخلائق) جمع الخليقة أى الطبيعة و (أزبد) البحر أى صار ذا زبد و رجل مزبد أى ذو زبد و هو ما يخرج من الفم كالرغوة و (التّيّار) مشدّدة موج البحر و (الهشيم) النّبت اليابس المتكسر أو يابس كلّ كلاء و (حفل) الماء يحفل من باب ضرب حفلا و حفولا اجتمع، و قال الشّارح المعتزلي لا يحفل أي لا يبالي
الاعراب
ما في قوله: ما غرق، موصول في محلّ النّصب أى لا يبالي ممّا غرق، و كذلك في قوله ما حرق إن كان يحفل بمعنى يبالي كما فسّره الشارح و إن كان بمعنى يجتمع كما في القاموس فما في محلّ الرّفع فاعل له و هو ظاهر.
المعنى
اعلم أنّ هذا الفصل وارد في معرض التّوبيخ و التّقريع لطائفة غير مرضيّة الطريقة.
فقال بعض الشّارحين: إنّه عني بذلك الصّحابة الذين مضى ذكرهم في الفصل السّابق يعنى الّذين زعموا أنّهم الرّاسخون في العلم.
و قال بعضهم: إنّ المراد به بنو اميّة.
و قال الشّارح البحراني: أراد بذلك من تخلّف من النّاس إلى زمانه ممّن هو غير مرضيّ الطريقة و إن كان معدودا من الصّحابة بالظاهر كالمغيرة بن شعبة و عمرو بن العاص و مروان بن الحكم و معاوية و نحوهم من امراء بني اميّة، و يقرب منه كلام الشّارح المعتزلي و ستطلع عليه.
و كيف كان فقوله (آثروا عاجلا و أخّروا آجلا) أراد به أنّهم اختاروا الدّنيا على الآخرة و قدّموها عليها و أخّروها عنها و ذلك لكون شهواتها حاضرة معجّلة و لذاتها غائبة مؤجّلة (و تركوا صافيا و شربوا آجنا) أى تركوا اللّذات الاخرويّة الصّافية من الكدورات و العلائق البدنيّة، و استلذّوا باللذات الدّنيوية المشوبة بالآلام و الاسقام فاستعار لفظ الآجن للذّاتها و الجامع عدم السّوغ أو عدم الصّفاء فيها كما أنّ الماء المتغيّر الطّعم و اللّون لا يسوغ و لا يصفى و ذكر الشّرب ترشيح.
(كأنّي أنظر إلى فاسقهم) قال الشارح البحراني: يحتمل أن يريد فاسقا معيّنا كعبد الملك بن مروان، و يكون الضّمير عائد إلى بني اميّة و من تابعهم، و يحتمل أن يكون مطلق الفاسق أى من يفسق من هؤلاء فيما بعده و يكون بالصّفات الّتي أشار إليها بقوله (و قد صحب المنكر فألفه) أي أخذه الفا له (و بسأبه و وافقه) أى استأنس به و وجده موافقا لطبعه (حتّى شابت عليه مفارقه) و هو كناية عن طول عهده بالمنكر إلى أن بلغ عمره غايته، لأنّ شيب المفارق عبارة عن بياضها و هو إنّما يكون إذا بلغ الشّيوخيّة و لتأخر شيب المفرق عن شيب الصّدغ و تأكّد دلالته على طول العهد خصّصه بالذّكر (و صبغت به خلائقه) أى صارت طبائعه مصبوغة ملوّنة بالمنكر أى صار المنكر خلقا له و سجيّة، فاستعار لفظ الصبغ لرسوخ المنكر في جبلته لشدّة ملازمته له.
(ثمّ أقبل مزبدا كالتّيّار) شبّهه بالبحر الموّاج و رشح التشبيه بذكر لفظ الازباد و وجه الشبه أنّه عند الغضب لا يبالى بما يفعله فى النّاس من المنكرات كما (لا يبالي) البحر ب (ما غرق) و شبّهه اخرى بالنّار المضرمة الملتهبة فقال (أو كوقع النّار في الهشيم) يعني أنّ حركاته في الظّلامات مثل وقع النّار في النّبت اليابس و الدّقاق من الحطب و وجه الشّبّه أنّه (لا يحفل) و لا يبالي بظلمه كما لا يحفل وقع النّار و لا يبالي ب (ما حرق)«» أو انّ ما أفسده لا يرجى اصلاحه كما أنّ ما حرقه النّار لا يمكن اجتماعه.
|