أين العقول المستصبحة بمصابيح الهدى، و الأبصار اللّامحة إلى منار التّقوى، أين القلوب الّتي وهبت للَّه، و عوقدت على طاعة اللَّه ازدحموا على الحطام، و تشاحّوا على الحرام، و رفع لهم علم الجنّة و النّار، فصرفوا عن الجنّة وجوههم، و أقبلوا على النّار بأعمالهم، و دعاهم ربّهم فنفروا و ولّوا، و دعاهم الشّيطان فأطاعوا و أقبلوا
اللغة
(المستصبحة) في بعض النّسخ بتقديم الحاء على الباء من الاستصحاب و في بعضها بالعكس كما ضبطناه من الاستصباح و هو الأوفق.
المعنى
ثمّ استفهم على سبيل الأسف و التحسّر فقال (أين العقول المستصبحة بمصابيح الهدى) استعار لفظ المصابيح لأولياء الدّين و أئمّة اليقين المقتبس عنهم نور الهداية و رشّح بذكر لفظ الاستصباح، و يجوز أن يكون استعارة لأحكام الشّرع المبين الموصلة لآخذها و السّالكة بعاملها إلى حظيرة القدس.
و مثله لفظ المنار في قوله (و الأبصار اللامحة إلى منار التقوى) إذ أئمّة الهدى أعلام التّقى بهم يهتدى في ظلمات الضّلال و غياهب الدّجى و كذلك بأحكام سيّد الأنام و الانقياد بها يهتدي إلى نهج الحقّ و سواء الطريق الذي يؤمن لسلوكها و يتقى من النّار و ينجي من غضب الجبّار جلّ و تعالى.
ثمّ استفهم اخرى بقوله (أين القلوب الّتي وهبت للَّه) أي وهبها أهلها للَّه سبحانه و المراد بهبتها له جعلها مستغرقة في مطالعة أنوار كبريائه و التوجّه إلى كعبة وجوب وجوده و هي القلوب الّتي صارت عرش الرّحمن و اشير اليها في الحديث القدسي لا يسعني أرضي و لا سمائي و لكن يسعني قلب عبدى المؤمن.
(و عوقدت على طاعة اللَّه) أي أخذ اللَّه عليهم العهد بطاعته إمّا في عالم الميثاق أو بألسنة الأنبياء و الرّسل و إليه اشير في قوله سبحانه: «مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا» ثمّ رجع إلى ذمّ الفرقة المتقدّمة المصدّرة بهذا الفصل فقال (ازدحموا على الحطام) أي تزاحموا على متاع الدّنيا و استعار له لفظ الحطام الموضوع خطبه 144 نهج البلاغه بخش 4 لليابس من النّبت المتكسّر لسرعة فنائه و فساده (و تشاحّوا على الحرام) أى تنازعوا عليه لأنّ غرض كلّ منهم جذبه اليه (و رفع لهم علم الجنّة و النّار) قال الشّارح البحراني: أشار بعلم الجنّة إلى قانون الشريعة القائد إلى الجنّة و بعلم النّار إلى الوساوس المزينة لقنيات الدّنيا، و العلم الأوّل بيد الدّعاة إلى اللَّه و هم الرّسول و من بعده من أولياء اللَّه من أهل بيته و التّابعين لهم باحسان، و العلم الثّاني بيد ابليس و جنوده من شياطين الجنّ و الانس الدّاعين إلى النار.
(فصرفوا عن الجنّة وجوههم) و أعرضوا عنها (و أقبلوا إلى النار بأعمالهم) القبيحة الموصلة إليها (و دعاهم ربّهم فنفروا) و استكبروا (و ولّوا و دعاهم الشيطان فأطاعوا و أقبلوا) و استجابوا.
تنبيه
قال الشارح المعتزلي في شرح هذا الفصل: فان قلت: هذا الكلام يرجع إلي الصّحابة الذين مضى ذكرهم في أوّل الخطبة.
قلت: لا و إن زعم قوم أنّه عناهم، بل هو إشارة إلى قوم ممّن يأتي من الخلف بعد السّلف، ألا تراه قال: كأنّي أنظر إلى فاسقهم و قد صحب المنكر فألفه، و هذا اللّفظ إنّما يقال في حقّ من لم يوجد بعد كما قال في حقّ الأتراك: كأنّي أنظر اليهم قوما كأنّ وجوههم المجان، و كما قال في حقّ صاحب الزّنج كأنى به يا أحنف و قد سار بالجيش، و كما قال في الخطبة التّى ذكرناها آنفا كأنى به قد نعق بالشّام، يعني به عبد الملك.
و حوشى عليه السّلام أن يعنى بهذا الكلام الصّحابة لأنّهم ما آثروا العاجل، و لا أخّروا الآجل، و لاصحبوا المنكر، و لا أقبلوا كالتيّار لا يبالي ما غرق، و لا كالنار لا يبالي ما احترقت، و لا ازدحموا على الحطام، و لا تشاحّوا على الحرام، و لا صرفوا وجوههم عن الجنّة، و لا أقبلوا إلى النّار بأعمالهم، و لا دعاهم الرّحمن فولّوا، و لا دعاهم الشيطان فاستجابوا، و قد علم كلّ أحد حسن سيرتهم و سداد طريقتهم و إعراضهم عن الدّنيا و قد ملكوها، و زهدهم فيها و قد تمكّنوا منها، و لو لا قوله: كأنّي أنظر الى فاسقهم، لم أبعد أن يغني بذلك قوما ممّن عليهم اسم الصّحابة و هو ردّى الطريقة كالمغيرة بن شعبة، و عمرو بن العاص، و مروان بن الحكم، و معاوية، و جماعة معدودة أحبّوا الدّنيا و استغواهم الشّيطان، و هم معدودون في كتب أصحابنا من اشتغل بعلوم السيرة و التواريخ عرفهم بأعيانهم انتهى كلامه.
أقول: و لا يبعد عندي أن يعنى عليه السّلام به المتقدّمين ذكرهم في أوّل الخطبة و استبعاد الشارح له بظهور لفظ كأنّى أنظر في حقّ من لم يوجد بعد لا وجه له، لا مكان أن يقال: إنّ نظره في الاتيان بهذا اللّفظ إلى الغاية أعني قوله: حتى شابت عليه مفارقه، و بعبارة اخرى سلّمنا ظهور هذا اللفظ في حقّ ما لم يوجد إلّا أنّ مراده عليه السّلام به ليس نفس الفاسق حتّى يقال إنه كان موجودا في زمانه عليه السّلام، و إنّما مراده بذلك الاخبار عن استمرار الفاسق في فسقه و تماديه في المنكرات الى آخر عمره، و هذا الوصف للفاسق لم يكن موجودا، فحسن التعبير بهذه اللفظة فافهم جيدا و أما استيحاشه من أن يعنى به الصحابة بأنهم ما آثروا العاجل إلى آخر ما ذكره فهو أوضح فسادا لأنّه لو لا اختيارهم الدّنيا على الاخرى لم يعدلوا عن امام الورى، فعدو لهم عنه دليل على أنهم اشتروا الضلالة بالهدى، و آثروا العاجل، و أخّروا الآجل و قد تركوا الشرب من الماء المعين، و منهل علوم ربّ العالمين، و استبدّوا بعقولهم الكاسدة، و ارتووا من آرائهم اللّاجنة الفاسدة، و مصاحبتهم جميعا للمنكر بالبدعات التي أحدثوها واضحة، و اقبال فاسقهم كالتيار و النار لا يبالي مما غرق و حرق لا غبار عليه و ما فعل عثمان من ضرب ابن مسعود و كسر بعض أضلاعه، و ضرب عمار و إحداث الفتق فيه، و ضربه لأبي ذرّ و إخراجه إلى الرّبذة و نحوها مما تقدّم ذكرها في شرح الكلام الثالث و الأربعين و غيره شاهد صدق على ما قلناه.
و كذلك اجتماعه مع «بنى ظ» أبيه إلى الحطام و مشاحتهم على الحرام و حضمهم لمال اللَّه خضم الابل نبته الرّبيع على ما تقدّم في شرح الخطبة الثالثة أوضح دليل على ما ذكرنا فبعدولهم جميعا عن اللَّه و عن وليّه صرفوا وجوههم عن الجنّة، و أقبلوا بأعمالهم إلى النار، فاستحقّوا الخزى العظيم و العذاب الأليم في أسفل درك من الجحيم.
|