و هى المأة و الرابعة و السبعون من المختار في باب الخطب أيّها الغافلون غير المغفول عنهم، و التّاركون المأخوذ منهم، ما لي أريكم من اللّه ذاهبين، و إلى غيره راغبين، كأنّكم نعم أراح بها سائم إلى مرعي وبيّ، و مشرب دويّ، إنّما هي كالمعلوفة للمدى لا تعرف ما ذا يراد بها إذا أحسن إليها، تحسب يومها دهرها، و شبعها أمرها
اللغة
(النعم) بالتحريك جمع لا واحد له من لفظه و أكثر اطلاقه على الابل و (أراح) الابل ردّها إلى المراح و هو بالضمّ مأوى الماشية باللّيل و بالفتح الموضع الّذي يروح منه القوم أو يروحون إليه و (سامت) الماشية سوما رعت بنفسها فهي سائمة و تتعدّى بالهمزة فيقال أسامها راعيها أى أرعيها و (الوبيّ) بالتشديد ذو الوباء و المرض و أصله الهمزة و (الدّوى) ذو الداء و الأصل في الدويّ دوى بالتخفيف و لكنّه شدّد للازدواج قال الجوهري: رجل دو بكسر الواو أى فاسد الجوف من داء و (المدى) بالضمّ جمع مدية و هى السكين و (الشبع) وزان عنب ضدّ الجوع.
الاعراب
غير المغفول صفة للغافلون و صحّة كون غير صفة للمعرفة مع توغّله في النكارة و عدم قبوله للتعريف و لو اضيف إلى المعارف من حيث إنّه لم يرد بالغافلين طائفة معيّنة فكان فيه شائبة الابهام و صحّ بذلك وصفه بالنكرة كما في قوله: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ على قول من يجعل غير وصفا للّذين لا بدلا منه، و الاستفهام في قوله: ما لى أراكم، للتعجّب كما في قوله: وَ تَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما و سائم فاعل أراح كما يستفاد من شرح البحراني، أو صفة للفاعل المحذوف كما يستفاد من شرح المعتزلي و العلّامة المجلسيّ «ره».
و قوله: تحسب يومها دهرها و شبعها أمرها، الظاهر أنّ يومها ثاني مفعول تحسب و كذلك شبعها و التقديم على الأوّل لقصد الحصر.
المعنى
اعلم أنّ مدار هذه الخطبة الشريفة على فصلين:
الفصل الاول في ايقاظ الغافلين و تنبيه الجاهلين من رقدة الغفلة و الجهالة
و هو قوله: (أيّها الغافلون غير المغفول عنهم) الظاهر أنّ الخطاب لكلّ من اتّصف بالغفلة من المكلّفين أى الّذين غفلوا عمّا اريد منهم من المعارف الحقّة و التكاليف الشرعية و لم يغفل عنهم و عمّا فعلوا، لكون أعمالهم مكتوبة محفوظة في اللّوح المحفوظ و صحائف الأعمال و كلّ ما فعلوه في الزبر و كلّ صغير و كبير مستطر (و التاركون) لما امروا به من الفرائض و الواجبات (المأخوذ منهم) ما اغترّوا به من الأهل و المال و الزخارف و القينات (مالى أراكم عن اللّه ذاهبين) كناية عن اعراضهم عن اللّه سبحانه و التفاتهم إلى غيره تعالى (و إلى غيره راغبين) إشارة إلى رغبتهم في زهرة الحياة الدّنيا و إعجابهم بها.
(كأنّكم نعم أراح بها سائم إلى مرعى وبىّ و مشرب دوىّ) شبّههم بأنعام ذهب بها سائم إلى مرعى و مشرب وصفهما ما ذكر و المراد بالسائم حيوان يسوم و يرعى و هو المستفاد من الشارح المعتزلي حيث قال: شبّههم بالنّعم الّتي تتبع نعما اخرى سائمة أى راعية، و إنما قال ذلك لأنّها إذا تبعت أمثالها كان أبلغ في ضرب المثل بجهلها من الابل الّتى يسميها راعيها، انتهى.
و فسّره الشارح البحراني بالراعى أي الّذي يراعي النعم و يحفظها و يواظب عليها من الرعاية و هو المراعاة و الملاحظة قال: شبّههم بالنّعم الّتي أراح بها راعيها إلى مرعى كثير الوباء و الدّاء، و وجه الشبه أنهم لغفلتهم كالنّعم و نفوسهم الأمّارة القائدة لهم إلى المعاصى كالراعي القائد إلى المرعى الوبىّ و لذات الدّنيا و مشتهياتها و كون تلك اللّذات و المشتهيات محلّ الاثام الّتي هي مظنّة الهلاك الاخروى و الداء الدّوىّ تشبه المرعى الوبيّ و المشرب الدويّ انتهى.
أقول: و هذا أقرب لفظا و ما قاله الشارح المعتزلي أقرب معنى، و ذلك لأنّ لفظ السائم على قول المعتزلي بمعنى الراعى من الرعى و هذا لا غبار عليه من حيث المعنى إلّا أنه يحتاج حينئذ إلى حذف الموصوف أى حيوان سائم و نحوه و هو خلاف الأصل، و أمّا على قول البحراني فلا حاجة إلى الحذف إلّا أنّ كون السائم بمعنى الراعى من الرعاية مما لم يقل به أحد، و كيف كان فالمقصود تشبيههم بأنعام اشتغلت بالماء و الكلاء و غفلت عمّا في باطنهما من السمّ الناقع و دوى الدّاء. (إنما هى كالمعلوفة للمدى) و السكاكين (لا تعرف ما ذا يراد بها إذا احسن إليها) أى تزعم و تظنّ أنّ العلف إحسان إليها على الحقيقة و لا تعرف أنّ الغرض من ذلك هو الذبح و الهلاك (تحسب يومها دهرها) يعني أنها لكثرة إعجابها لعلفها في يومها تظنّ أنّ دهرها مقصور على ذلك اليوم ليس لها وراءه يوم آخر، و قيل معناه أنها تظنّ أنّ ذلك العلف و الاطعام كما هو حاصل لها ذلك اليوم يكون حاصلا لها أبدا.
(و شبعها أمرها) أى تظنّ انحصار أمرها و شأنها في الشبع مع أنّ غرض صاحبها من إطعامها و إشباعها أمر آخر.
|