و من خطبة له عليه السّلام و هى المأة و الثاني و الثلاثون من المختار في باب الخطب
نحمده على ما أخذ و أعطى، و على ما أبلى و ابتلى، الباطن لكلّ خفيّة، و الحاضر لكلّ سريرة، العالم بما تكنّ الصّدور، و ما تخون العيون، و نشهد أن لا إله غيره، و أنّ محمّدا صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم نجيبه و بعيثه، شهادة يوافق فيها السّرّ الإعلان، و القلب اللّسان.
اللغة
قال الشّارح المعتزلي (أبلى) أى أعطى يقال: قد أبلاه اللَّه بلاء حسنا أى أعطاه قال زهير:
- جزى اللَّه بالاحسان ما فعلا بكمو أبلاهما خير البلاء الذي يبلو
و أمّا قوله (و ابتلى) فالابتلاء إنزال مضرّة بالانسان على سبيل الاختبار كالمرض و الفقر و المصيبة، و قد يكون بمعنى الاختبار في الخير إلّا أنّه كثيرا ما يستعمل في الشّر.
أقول: و الظاهر أنّ استعمال البلاء في الاعطاء أيضا على الغالب لا دائما، و إلّا فقد قال سبحانه: و لنبلونكم بشي ء من الخوف و الجوع و نقص من الأموال و الأنفس و الثّمرات.
و التحقيق أنّ الابلاء و الابتلاء كلاهما من البلاء بمعنى الاختبار و الامتحان قال الفيروزآبادي: ابتليت الرّجل اختبرته و امتحنته كبلوته بلوا، ثمّ قال: و البلاء يكون منحة و يكون محنة، و في المصباح بلاه اللَّه بخير أو شرّ يبلوه بلوا و أبلاه بالألف و ابتلاه ابتلاء بمعنى امتحنه، و الاسم بلاء مثل سلام، و البلوى و البليّة مثله و (كننته) أكنه من باب قتل سترته، و أكننته بالألف أخفيته، و قال أبو زيد الثلاثي و الرّباعى لغتان في السرّو في الاخفاء جميعا و تكنّ الصّدور في النّسخ من باب الافعال.
المعنى
اعلم أنّ مدار هذه الخطبة على فصلين: أحدهما حمد اللَّه المتعال و الاشارة إلى جملة من نعوت الكبرياء و الجمال، و الثّاني التنفير من الدّنيا و الوصيّة بالزهد و التقوى.
اما الفصل الاول
فهو قوله (نحمده على ما أخذ و أعطى) أى على أخذه و إعطائه، و المراد بالاعطاء واضح، و أمّا الأخذ فيجوز أن يراد به أخذ الميثاق في عالم الذرّ بالتوحيد و النّبوة و الولاية كما يشهد به قوله سبحانه: و إذ أخذ ربّك من بني آدم من ظهورهم ذرّيّتهم و أشهدهم على أنفسهم أ لست بربّكم الآية، أو أخذ عموم التكاليف أو خصوص الحقوق الماليّة كالخمس و الزّكاة و الصّدقات، أو أخذ ما أعطاه على بعض العباد و ابتلائهم بالفقر و المسكنة بعد الغنى و الثّروة، فانّ أخذ ذلك كلّه من العباد لما كان فعلا جميلا منه سبحانه و تعالى عائدا منفعته إليهم و نعمة منه عزّ و جلّ عليهم استحقّ بذلك حمدا و شكرا و إن كان في بعضها ضرر دنيويّ إلّا أنّ ثمرتها الاخروية أعظم و جزائها أدوم.
و يحتمل أن يكون المراد به أخذ المجرمين، و مؤاخذة العاصين، و إعطاء المحسنين، و إنعام الصّالحين (و) نحمده (على ما أبلى و ابتلى) أى على اختباره و امتحانه بالخير و الشّر و النفع و الضّرر، لأنّ البلاء للأولياء كرامة، و الصّبر على المكاره و التحمل على المشاق من أفضل العبادات و أعظم القربات، و إنّما يوفّى الصّابرون أجرهم بغير حساب، و قد تقدّم تحقيقه في شرح الخطبة المأة و الثّالثة عشر فتذكّر.
(الباطن لكلّ خفيّة) أى الخبير البصير بكلّ ما يبطن و يخفى (الحاضر لكلّ سريرة) أي العالم بكلّ ما يسرّ و يكتم، و إن تجهر بالقول فانّه يعلم السّر و أخفى (العالم بما تكنّ الصّدور) و تستره (و ما تخون العيون) و تسترقه من الرّمزات و اللّحظات على وجه الخيانة و الخلاف كما قال عزّ من قائل: و اللَّه يعلم خائنة الأعين و ما تخفى الصّدور، و قد مضى تحقيق الكلام في عموم علمه سبحانه بالجزئيات و الكلّيات و ما يتّضح به معنى هذه الفقرات في شرح الفصل السّادس و السّابع من الخطبة الاولى و شرح الخطبة الرّابعة و السّتين و الخامسة و الثّمانين.
(و نشهد أن لا إله) إلّا اللَّه (غيره) متوحّدا في عزّ جلاله متفرّدا في قدس جماله، متعاليا عن نقص كماله (و أنّ محمّدا صلّى اللَّه عليه و آله نجيبه و بعيثه) أى عبده المنتجب المصطفى من بين كافّة الخلق و المرسل المبعوث إلى عامّتهم (شهادة يوافق فيها السّر الاعلان و القلب اللّسان) أى صادرة عن صميم القلب و وجه الخلوص و توافق الباطن للظّاهر.
|