(عزم) على الشي ء و عزمه عزما من باب ضرب عقد ضميره على فعله و عزم عزيمة اجتهد و جدّ فى أمره و (الكرى) وزان عصا النعاس.
و (الكنف) محرّكة الجانب و الظل، و فلان فى كنف اللّه أى فى حرزه و (الستر) بالكسر الساتر و بالفتح المصدر و (طرف) البصر طرفا من باب ضرب تحرّك، و طرف العين نظرها و الطرفة المرّة منه و مطرف العين يحتمل المصدر و الزمان
و قوله: يدعوك الى فضله استيناف بيانىّ و ليس حالا كما زعمه الشّارح البحرانى، و جملة و أنت متول فى موضع النّصب على الحال
(فتداو من داء الفترة في قلبك بعزيمة) أى عالج من مرض الفتور و الضعف و الانكسار الذى في قلبك بدواء الجدّ و العزم على العبوديّة و الطاعة (و من كرى الغفلة في ناظرك بيقظة) أى من نوم الغفلة في ناظر بصيرتك عن الذكر و الفكر بالتنبيه و اليقظة.
(و كن للّه مطيعا) و هى أعنى الطاعة نتيجة العزيمة (و بذكره آنسا) و هو أعنى الذكر ثمرة اليقظة (و تمثل في حال توليك عنه إقباله عليك) أى تصوّر إقباله تعالى عليك بالفضل و الاحسان و الكرم و الامتنان في حال اعراضك عنه و المقابلة لذلك بالكفران و المخالفة و العصيان كما أوضحه بقوله (يدعوك إلى عفوه) بماأنزله في كتابه من قوله ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ و قوله أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ و نحوه (و يتغمّدك بفضله) و كرمه (و أنت متولّ) و معرض (عنه إلى غيره) تعالى و مقبل إلى الدّنيا و راكن إليها و منهمك في لذّاتها و شهواتها.
(فتعالى من قوىّ) و قادر على مؤاخذتك (ما أكرمه) و أجزل إحسانه و في بعض النسخ ما أحلمه أى صفحه عنك (و تواضعت من ضعيف) و حقير (ما أجرأك) و أعظم كفرانك و جار لك (على معصيته) و مخالفته (و أنت في كنف ستره مقيم) حيث ستر من شنايع أعمالك و قبايح ذنوبك ما لو كشف عن أدناها لافتضحت (و في سعة فضله متقلّب) حيث أسبغ عليك من نعمه الجسام و آلائه العظام ما لو شكرت على أقلّ قليلها لعجزت.
(فلم يمنعك فضله) بكفرانك (و لم يهتك عنك ستره) بطغيانك (بل لم تخل من لطفه) و برّه (مطرف عين) أى مقدار حركة البصر (في نعمة يحدثها لك أو سيئة يسترها عليك أو بلية يصرفها عنك) و هذا تفصيل ضروب ألطافه تعالى الخفيّة و الجلية.
و الغرض من قوله عليه السّلام: فتمثّل إلى هنا تذكير المخاطبين بعوائد نعمه و موائد كرمه و جميل آلائه و جزيل نعمائه و عموم نواله في حقّهم، مع ما هم عليه من الغفلة و الاعراض حثّا لهم بذلك على المداومة بالذكر و الطاعة، و التنبّه من نوم الغفلة و الجهالة، و المواظبة على دعائه و مناجاته بنحو ما في دعاء الافتتاح: فكم يا إلهي من كربة قد فرّجتها، و هموم قد كشفتها، و عثرة قد أقلتها، و حلقة بلاء قد فككتها، اللهمّ إنّ عفوك عن ذنبى و تجاوزك عن خطيئتي و صفحك عن ظلمي و سترك على قبيح عملي و حلمك عن كثير جرمي عند ما كان من خطائى و عمدى أطمعنى فى أن أسألك ما لا أستوجبه منك، فلم أر مولا كريما أصبر على عبد لئيم منك علىّ يا ربّ إنك تدعوني فأولّى عنك و تتحبّب إلىّ فأتبغض إليك و تتودّد إلىّ فلا أقبل منك، كأنّ لى التطوّل عليك فلم يمنعك ذلك من الرّحمة بي و الاحسان إلىّ و التفضّل علىّ بجودك و كرمك.
هذا كلّه فضله و لطفه و احسانه عليك مع عصيانك و طغيانك (فما ظنك به لو أطعته) و كيف يؤيسك من كرمه مع طاعتك و قد قال وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ أم كيف يحرمك من نعمه مع توكّلك عليه و قد قال وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ أم كيف ينقص عطائه و حبائه مع شكرك و ذكرك و قد قال لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ.
ثمّ أكّد جذبهم إلى التّعبد و الطاعة بأبلغ بيان و أحسن تقرير و عبارة فقال (و أيم اللّه لو أنّ هذه الصّفة) الّتي ذكرت من إقبال اللّه عليك و تولّيك عنه (كانت في) متماثلين من الناس (متّفقين في القوّة متوازنين في القدرة) متساويين في الدّرجة و الرّتبة و كنت أنت أحدهما (لكنت) لو أنصفت (أوّل حاكم على نفسك بذميم الأخلاق و مساوى الأعمال) حيث إنّه أقبل و تولّيت، و تحبّب و تعاديت، و وصلك فقطعت، و تدانى فتباعدت فكيف إذا كان الطرف المقابل هو اللّه القاهر القادر مالك الملوك ربّك و ربّ العالمين كلّهم، فحكومتك على نفسك و تعزيرك عليها حينئذ أولى و أحجى.
ثمّ لما كان منشاء اغترار الغافلين العصات المخاطبين المسئولين بخطاب ما غرّك بربّك الكريم و علّة إعراضهم عنه تعالى و تولّيهم عن ذكره عزّ و جلّ هو الاغترار بالدّنيا و الافتتان بشهواتها و لذّاتها و امنيّاتها حسبما يشهد به التّجربة و الوجدان و نطق به القرآن فى قوله يُنادُونَهُمْ أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَ لكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ و قوله اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَ غَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ و غيره من الايات الكريمة.
|