أين تذهب بكم المذاهب، و تتيه بكم الغياهب، و تخدعكم الكواذب، و من أين تؤتون، و أنّى تؤفكون، و لكلّ أجل كتاب، و لكلّ غيبة إياب، فاستمعوه من ربّانيّكم، و أحضروه قلوبكم، و استيقظوا إن هتف بكم، و ليصدق رائد أهله، و ليجمع شمله، و ليحضر ذهنه، فلقد فلق لكم الأمر فلق الخرزة، و قرفه قرف الصّمغة
اللغة
(تاه) يتيه تيها بالفتح و الكسر تحيّر و (الغيهب) الظلمة و الشديد السّواد من الليل و (تؤتون) بالبناء على المفعول و (الرّباني) منسوب إلى الربّ و فسّر بالمتألّه العارف باللّه، أو الذي يطلب بعلمه وجه اللّه، أو العالم العامل المعلّم و (الرائد) الذى يتقدّم القوم يبصر لهم الكلاء و مساقط الغيث و (الفلق) الشقّ و (الخرزة) محرّكة الجوهر و ما ينظم و (قرفت) الشي ء قرفا من باب ضرب قشرته.
و (الصمغ) ما ينحلب من شجر العضا و نحوها و في القاموس و لكلّ شجر صمغ و الصمغ العربي غراء القرظ و الواحدة صمغة و الجمع ضموغ مثل تمر و تمرة و تمور في المثل، و تركته على مثل مقرف الصمغة، و يروى مقلع لأنّ الصمغة إذا قرفت لم يبق لها أثر.
الاعراب
الباء في قوله عليه السّلام اين تذهب بكم المذاهب، للتعدية، و كذا في قوله تتيه بكم، و إن، في قوله عليه السّلام إن هتف بكم، بكسر الهمزة شرطية و في بعض النسخ بالفتح فيكون مصدريّة أى لتهافه بكم، و فاعل فلق راجع إلى الرائد
المعنى
ثمّ استفهم عليه السّلام عنهم على سبيل التقريع لهم و التوبيخ ببقائهم على ضلالتهم و قال (اين تذهب بكم المذاهب) أى الطرق المنحرفة عن الحقّ، و المراد بها العقائد الفاسدة، و اسناد الاذهاب إليها على المجاز مبالغة (و تتيه بكم الغياهب) أى تجعلكم ظلمات الجهالات تائها متحيّرا في بوادي الضّلال (و تخدعكم الكواذب) أى تمكر بكم الامنيات الكاذبة و الأوهام الباطلة التي لا أصل لها.
كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً.
(من أين تؤتون) أى من أىّ جهة و طريق يأتيكم من يضلّكم من الشّياطين أو تأتيكم تلك الأمراض المزمنة (و أنّى تؤفكون) أى كيف«» تصرفون عن قصد السبيل أو أين تقلبون و تذهبون، أو متى يكون انصرافكم عن الغفلة و الجهالة.
و قوله (فلكلّ أجل كتاب و لكلّ غيبة إياب) يحتمل أن يكون منقطعا عمّا قبله و يكون بينه و بين ما قبله ما يربطه به فأسقط السيد (ره) على مجرى عادته و أن يكون متّصلا به، فانه لما استفهم عن تيههم و انخداعهم و تقلّبهم توبيخا و تقريعا و تنبيها على غفلتهم عن الحقّ أردفه بذلك توكيدا لما أراد و أشار به الى أنهم ليسوا بمهملين، بل كلّ ما عملوه في زمان الغفلة محفوظ مكتوب و أنهم ليسوا في الدّنيا بباقين، و سوف يخرجون منها و ينزعون فيكون تهديدا لهم بالاشارة إلى قرب الموت و أنهم بمعرض أن يأخذهم على غفلتهم، و المعنى أنه لكلّ أمد و وقت حكم مكتوب على العباد، و لكلّ غيبة إياب و رجوع.
ثمّ أكّده ثانيا بقوله (فاستمعوا من ربّانيّكم) اى اصغوا الحكم و المواعظ و ما ينجيكم من الرّدى و يدلّكم على الرّشاد من المتألّه العارف باللّه المبتغى بعلمه وجه اللّه سبحانه، و أراد به نفسه الشريف (و أحضروه قلوبكم) أراد إقبالهم بكلّهم إليه لا الغيبة بالقلوب و الحضور بالأبدان فقط (و استيقظوا ان هتف بكم) أى استيقظوا من نوم الغفلة إن ناداكم و تنبّهوا من رقدة الضلّة إن دعاكم (و ليصدق رائد أهله) أى وظيفة الرائد أن يصدق، و في المثل: الرائد لا يكذب أهله.
و لعلّ المراد بالرائد نفسه أى وظيفتي الصدق فيما اخبركم به ممّا تردون عليه من الامور المستقبلة في الدّنيا و الآخرة، كما أنّ وظيفتكم التوجّه و الاستماع و احضار القلب (و ليجمع شمله) أى ما تشتّت من أمره، و المراد به الأفكار و العزائم أى يجب علىّ نصحكم و تذكيركم بقلب فارغ من الخطرات و الوساوس، و التوجّه إلى هدايتكم و إرشادكم باقبال تامّ، و يجوز أن يراد بالشّمل من تفرّق من القوم في فيافي الضّلالة (و ليحضر ذهنه) فيما يقول و يتفوّه به.
(فلقد فلق) الرائد (لكم الأمر فلق الخرزة) أى أوضح لكم أمر الدّين و ما جهلتموه من أحكام الشرع المبين، أو أمر ما يحدث من الفتن ايضاحا تامّا، فأظهر لكم باطن الأمر كما يرى باطن الخرزة بعد شقّها. (و قرفه قرف الصمغة) أى ألقاه بكلّيته اليكم و لم يدّخر شيئا عنكم كما أنّ قارف الصمغة لا يترك منها شيئا إذا قرفها و لا يبقى منها أثر بعد قرفها.
|