اجعلوا (فاجعلوا خ) ما افترض اللَّه عليكم من طلبتكم، و اسألوه من أداء حقّه ما سألكم، و أسمعوا دعوة الموت آذانكم قبل أن يدعى بكم، إنّ الزّاهدين في الدّنيا تبكي قلوبهم و إن ضحكوا، و يشتدّ حزنهم و إن فرحوا، و يكثر مقتهم أنفسهم و إن اغتبطوا بما رزقوا
اللغة
(الطلبة) بفتح الطاء و كسر اللام ما طلبته و (مقته) مقتا أبغضه فهو مقيت و ممقوت.
الاعراب
من في قوله: من طلبتكم للتبعيض، و يحتمل الزيادة على مذهب الأخفش و الكوفيّين من تجويز زيادتها في الايجاب استدلالا بقوله تعالى: لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ، و ذهب سيبويه إلى أنها فيه للتبعيض أيضا.
و قوله: و اسألوه من أداء حقه ما سألكم، اى اسألوا منه على الحذف و الايصال، و ما موصولة منصوبة المحلّ مفعول اسألوه و سألكم صلتها و العايد محذوف أى الّذي سأله منكم، و من أداء حقّه، بيان لما، كما في قولك: عندى من المال ما يكفى، و انّما جاز تقديم من المبينة على المبهم في هذا و أمثاله، لأنّ المبهم الذي فسّر بمن مقدّم تقديرا كأنّك قلت عندى شي ء من المال ما يكفى، فالمبيّن بفتح الباء في الحقيقة محذوف، و الّذي بعد من عطف بيان له، و المقصود بذلك تحصيل البيان بعد الابهام، لأنّ معنى أعجبني زيد، أى شي ء من أشيائه بلا ريب، فاذا قلت: كرمه أو وجهه، فقد تبيّنت ذلك الشّي ء المبهم.
المعنى
و لمّا نبّه عليه السّلام على معايب الدّنيا و مساويها عقّبه بالأمر بأخذ ما هو لازم فيها فقال (اجعلوا ما افترض اللَّه عليكم) من العقائد الحقّة و المعارف الالهيّة و العبادات الفرعيّة (من طلبتكم) أى من جملة ما تطلبونه أو نفس ما تطلبونه على زيادة من و على الثاني ففيه من المبالغة ما لا يخفى، يعني أنّ اللّازم عليكم أن يكون مطلوبكم في الدّنيا الفرائض و أدائها و تكون همّتكم مقصورة فيها (و اسألوه من أداء حقّه ما سألكم) أى اسألوا منه سبحانه التّوفيق و التّسديد و الاعانة لما أمركم به و فرضه عليكم من أداء حقوقه الواجبة و تكاليفه اللّازمة، فانّ الاتيان بالواجبات و الانتهاء عن السّيئات لا يحصل إلّا بحول اللَّه و قوّته و توفيقه و تأييده و عصمته، فيلزم على العبد أن يقرع باب الرّب ذي الجلال بيد الذلّ و المسكنة و السؤال لأن يسهّل له مشاقّ الأعمال، و يصرفه عما يورطه في ورطة الضّلال، و يوقعه في شدايد الأهوال، كما قال سيّد العابدين و زين السّاجدين سلام اللَّه عليه و على آبائه و أولاده الطّاهرين في دعاء يوم عرفة: و خذ بقلبي إلى ما استعملت به القانتين، و استعبدت به المتعبّدين، و استنقذت به المتهاونين، و أعذني مما يباعدني عنك و يحول بيني و بين حظّي منك و يصدّني عمّا احاول لديك، و سهّل لى مسلك الخيرات اليك، و المسابقة إليها من حيث أمرت و المشاحة فيها على ما أوردت.
و في دعاء الاشتياق إلى طلب المغفرة: اللّهم و إنّك من الضعف خلقتنا، و على الوهن بنيتنا، و من ماء مهين ابتدئتنا و لا حول لنا إلّا بقوّتك، و لا قوّة لنا إلّا بعونك، فأيّدنا بتوفيقك، و سدّدنا بتسديدك و أعم أبصار قلوبنا عمّا خالف محبّتك، و لا تجعل لشي ء من جوارحنا نفوذا إلى معصيتك.
و في دعائه عليه السّلام في ذكر التّوبة: اللّهم انّه لا وفاء لي بالتوبة إلّا بعصمتك، و لا استمساك بي عن الخطايا إلّا عن قوّتك، فقوّني بقوّة كافية، و تولّني بعصمة مانعة، هذا.
و اطلاق السّؤال على الفرائض و الأوامر في قوله ما سألكم من باب المجاز بجامع الطّلب، أو أنّ الاتيان بلفظ السؤال لمجرّد المشاكلة بينه و بين قوله و اسألوه و هى من محسّنات البديع كما مرّ في ديباجة الشرح و قوله (و اسمعوا دعوة الموت آذانكم قبل أن يدعى بكم) أراد به التهيّؤ للموت قبل حلول الفوت و الاستعداد له قبل نزوله، بأن يجعله نصب عينيه، يذكر شدّة ما يكون في تلك الحال عليه من سكرة ملهثة و غمرة كارثة و أنّه موجعة و جذبة مكربة و سوقة متعبة.
ثمّ نبّه عليه السّلام على أوصاف خيرة العباد من العبّاد و الزّهاد لترمق أعمالهم و يقتدى لهم في أفعالهم فقال: (إنّ الزاهدين في الدّنيا) الرّاغبين في الآخرة (تبكى قلوبهم) من خشية الحقّ (و إن ضحكوا) مداراة مع الخلق (و يشتدّ حزنهم) من خوف النار و غضب الجبّار (و إن فرحوا) حينا ما من الأعصار (و يكثر مقتهم) و بغضهم (أنفسهم) لكونها أمّارة بالسّوء و الفساد صارفة عن سمت السّداد و الرشاد فلا يطيعونها و لا يلتفتون إليها و لا يخلعون لجامها لتقتحم لهم في العذاب الاليم و توردهم في الخزى العظيم (و ان اغتبطوا) اى اغتبطهم الناس (بما رزقوا) من فوائد النّعم و عوائد المزيد و القسم.
|