و لا ينبغي لي أن أدع الجند و المصر و بيت المال و جباية الأرض و القضاء بين المسلمين و النّظر في حقوق المطالبين، ثمّ أخرج في كتيبة اتّبع أخرى، أتقلقل تقلقل القدح في الجفير الفارغ، و إنّما أنا قطب الرّحى تدور عليّ و أنا بمكاني، فإذا فارقته استحار مدارها، و اضطرب ثفالها، هذا لعمر اللَّه الرّأي السّوء، و اللَّه لو لا رجائي الشّهادة عند لقائي العدوّ لو قد حمّ لي لقائه لقرّبت ركابي، ثمّ شخصت عنكم، و لا أطلبكم ما اختلف جنوب و شمال، طعّانين، عيّابين، خيّادين، روّاغين، و إنّه لا غناء في كثرة عددكم مع قلّة اجتماع قلوبكم، لقد حملتكم على الطّريق الواضح الّتي لا يهلك عليها إلّا هالك، من استقام فإلي الجنّة، و من زلّ فإلى النّار.
اللغة
(الكتيبة) القطعة العظيمة من الجيش و (القدح) بالكسر السّهم قبل أن يراش و ينضل و (الجفير) الكنانة و قيل و عاء للسّهام أوسع من الكنانة و (استحار مدارها) قال الشّارح المعتزلي: اضطرب و لم نجده بهذا المعنى في اللغة و الظّاهر من استحار إذا لم يهتد بسبيله يقال استحار السّحاب أى لم يتجه جهة، و عن الجوهري المستحير سحاب ثقيل متردّد ليس له ريح تسوقه و (الثفال) كالكتاب و الغراب الحجر الأسفل من الرّحى و (الرّكاب) كالكتاب أيضا الابل التي يسار عليها.
الاعراب
قوله: و اللَّه لو لا رجائى الشهادة جواب القسم، قوله: لقرّبت ركابي، و هو سادمسدّ جواب لو لا، و جملة لو قدحمّ لي لقائه، شرطيّة معترضة بين القسم و جوابه كما في قوله:
- لعمرى و ما عمرى عليّ بهينلقد نطقت بطلا«» علىّ الأقارع
و جواب لو محذوف بدلالة سياق الكلام عليه أى لو قدحمّ لى لقائه لقيته و دخول قد في شرط لو نادر، و مثله ما رواه في حواشي المغني من صحيح البخاري قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: لو قد جاء مال البحرين قد أعطيتك هكذا هكذا، و اختلف في المرفوع بعد لو لا و أنّ رفعه لما ذا، قال ابن هشام لو لا تدخل على جملة اسميّة ففعليّة لربط امتناع الثانية بوجود الاولى، نحو لو لا زيد لأكرمتك، أى لو لا زيد موجود إلى أن قال، و ليس المرفوع بعد لو لا فاعلا بفعل محذوف، و لا بلولا لنيابتها عنه، و لا بها أصالة، خلافا لزاعمي ذلك، بل رفعه بالابتداء، و طعانين مع المنصوبات الثلاثة بعدها حالات من ضمير الخطاب في قوله أطلبكم، و جملة لقد حملتكم جواب لقسم محذوف، و الطريق يذكّر و يؤنث و لذا اتى بصفة أوّلا بالتذكير و ثانيا بالتّأنيث جريا على اللّغتين.
المعنى
ثمّ أشار عليه السّلام إلى وجوه الفساد في خروجه بنفسه بقوله (و لا ينبغي لى أن أدع الجند و المصر و بيت المال و جباية الأرض) أى جمع ما فيها و خراجها (و القضاء بين المسلمين) و فصل خصوماتهم (و النظر في حقوق المطالبين) و دفع ظلاماتهم و غير ذلك مما فيه نظام الدولة و انتظام المملكة و مهام العباد و قوام البلاد (ثم اخرج في كتيبة أتبع) في كتيبة (أخرى أتقلقل) أى أضطرب (تقلقل القدح في الجفير الفارغ) من السهام، و الغرض التّشبيه في اضطراب الحال و الانفصال عن الجنود و الاعوان بالقدح الذي لا يكون حوله قداح تمنعه من التّقلقل و لا يستقرّ مكانه.
و قال الشارح البحراني: شبّه خروجه معهم بالقدح في الجفير، و وجه الشّبه أنّه كان قد نفد الجيش و أراد أن يجهّز من بقي من النّاس في كتيبة اخرى فشبّه نفسه في خروجه في تلك الكتيبة وحده مع تقدم أكابر جماعة و شجعانها بالقدح في الجفير الفارغ في كونه يتقلقل، و في العرف يقال للشريف إذا مشى في حاجة ينوب فيها من هو دونه و ترك المهام التي لا تقوم إلّا به ترك المهمّ الفلاني و مشى يتقلقل على كذا، و الأشبه ما ذكرنا (و إنما أنا قطب الرّحى تدور علىّ و أنا بمكاني) شبّه عليه السّلام نفسه بالقطب و امور الامارة و الخلافة المنوطة عليه بالرحى و وجه الشّبه دوران تلك الامور عليه دوران الرّحى على القطب كما أشار إليه بقوله: تدور علىّ، و هو من قبيل التشبيه المجمل المقرون بذكر وصف المشبّه به كما في قولها: هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها.
و قوله (فاذا فارقته استحار مدارها و اضطرب ثفالها) إشارة إلى الغرض من التشبيه و هو فساد الامور المذكورة و اضطرابها بمفارقته عليه السّلام لها و انتقاله عليه السّلام عن مكانه، و كذلك يبطل الغرض المقصود من الرّحا بارتفاع قطبها و انتفائه، و معنى استحار مدارها على تفسير الشّارح المعتزلي اضطراب دورانها و خروجه عن الحركة المستديرة إلى المستقيمة، و على ما قدّمنا من عدم مجي ء الاستحارة بمعنى الاضطراب فالأنسب أن يكون كناية عن الوقوف عن الحركة و يكون اضطراب ثفالها كناية عن عدم تأتى الغرض المطلوب منه.
و لما نبّه على فساد ر أيهم أكّد ذلك بالقسم البارّ و قال (هذا لعمر اللَّه الرأى السّوء) ثمّ أقسم باستكراهه لهم و استنكافه منهم و نفرة طبعه عن البقاء معهم إلّا أنّ له مانعا عن ذلك و هو قوله (و اللَّه لو لا رجائي) لقاء اللَّه ب (الشهادة عند لقائى العدوّ لو قدحمّ) و قدّر (لي لقائه لقرّبت ركابي ثمّ شخصت عنكم) و فارقتكم غير متأسّف عليكم (فلا أطلبكم) سجيس اللّيالي (ما اختلف جنوب و شمال) تبرّما من سوء صنيعتكم و قبح فعالكم و مخالفتكم لأوامرى حالكونكم (طعّانين) على النّاس (عيّابين) عليهم (حيّادين) ميّالين عن الحقّ (روّاغين) عن الحرب روغ الثّعلب (و انّه لاغناء) و لا نفع (في كثرة عددكم مع قلّة اجتماع قلوبكم) و نفاقكم (لقد حملتكم على الطريق الواضح التي لا يهلك عليها) أى كائنا عليها أو بسببها (إلّا هالك من استقام) و اعتدل و لزم سلوكها (ف) مرجعه (إلى الجنّة) بنفس مطئنّة (و من زلّ) و عدل عنها (ف) مصيره (إلى النّار) و بئس القرار.
|