اللغة
(نهكته) الحمّى نهكأ من باب منع و تعب هزلته، و نهكه السلطان عقوبة بالغ فيه، و نهكت الثّوب لبسته حتّى خلق و بلى (و الحرب) مؤنّث سماعيّ و قد تذكر ذهابا إلى معنى القتال فيقال حرب شديد
الاعراب
قوله عليه السّلام: و قد و اللّه أخذت، جملة القسم معترضة بين قد و مدخولها جيئت بها لتأكيد الكلام.
المعنى
اعلم أنّه قد تقدّم في شرح الخطبة الخامسة و الثلاثين تفصيل قصّة الحكومة و عرفت هناك أنّ أهل الشام لمّا ضعفوا عن مقاومة أهل العراق و عجزوا عن مقاتلتهم و رأوا علوّ كلمة الحقّ و أيقنوا بالهلاك و العطب، عدلوا عن القراع إلى الخداع فرفعوا المصاحف على الرّماح بتدبير ابن النابغة عمرو بن العاص اللّعين على وجه الخديعة و المكيدة.
و لمّا رأى أهل العراق منهم ذلك كفّوا أيديهم عن القتال و اجتمعوا عليه عليه السّلام و طالبوه بالكفّ عنهم و كانوا في ذلك على أقسام.
فمنهم من دخلت عليه الشّبهة برفع المصاحف و اعتقدوا أنّهم لم يرفعوها خديعة و حيلة بل حقا و عملا بموجب الكتاب و تسليما للدّين الحقّ فرأى أنّ الاستسلام للحجّة أولى من الاصرار على الحرب.
و منهم من قد كان ملّ من الحرب بطول المدّة، فلمّا رأى شبهة ما يسوغ التعلّق بها فى رفض المحاربة و حبّ العافية أخلد إليها.
و منهم من كان يبغض أمير المؤمنين عليه السّلام بالباطن و يطيعه بالظاهر كما يطيع كثير من النّاس السلطان ظاهرا أو يبغضه باطنا فلمّا وجد طريقا إلى خذلانه و ترك نصرته أسرع إليها.
فاجتمع جمهور عسكره إليه عليه السّلام و طالبوه الكفّ فامتنع امتناع عالم بالمكيدة و عرّفهم أنّها خدعة و حيلة و قال لهم: إنّى أعرف بالقوم منكم و أعلم أنّهم ليسوا بأهل دين و لا قرآن فلا تغترّوا برفعهم للمصاحف و انهدوا إليهم و لم يبق منهم إلّا آخر نفسهم، فأبوا عليه و لجّوا و أصرّوا على القعود و الخذلان و طلبوا أن ينفذ إلى الأشتر و ساير المحاربين أن يكفّوا عن الحرب و يرجعوا.
فأرسل إلى الأشتر و أمره بالرّجوع، فقال الأشتر: و كيف أرجع و قد لاحت
أمارات الظفر و قال له: ليمهلني ساعة واحدة و لم يكن عالما بصورة الحال، فلمّا عاد إليه الرّسول بذلك غضبوا و شغبوا و قالوا: أنفذت إلى الأشتر سرّا تأمره بالجدّ و تنهاه عن الكفّ و إن لم يعد قتلناك كما قتلنا عثمان.
فرجعت الرّسل إلى الاشتر فقالوا له: أتحبّ أن تظفر بالعدوّ و أمير المؤمنين قد سلّت عليه خمسون ألف سيف، فقال: ما الخبر قالوا: إنّ الجيش بأسره قد أحدقوا به و هو جالس بينهم على الأرض تحته نطع و هو مطرق و البارقة تلمع على رأسه يقولون: لئن لم يرجع الأشتر قتلناك.
فرجع فوجد أمير المؤمنين تحت الخطر قد ردّوه أصحابه بين الأمرين إن لم يكفّ عن الحرب إمّا أن يسلّموه إلى معاوية أو يقتلوه و لا ناصر له منهم إلّا ولداه و ابن عمّه و نفر قليل لا يبلغ عشرة.
فلمّا رآهم الأشتر شتمهم و شتموه و أبوا و قالوا: المصاحف المصاحف و الرّجوع إليها لا نرى غير ذلك، فأجابهم أمير المؤمنين إلى ذلك كرها دفعا للأفسد بالفاسد و قال لهم: (أيّها الناس إنه لم يزل أمرى معكم على ما احبّ) من قتال أهل البغي و العدوان و استيصال القاسطين من حزب الشّيطان (حتّى) عاد طاعتكم لي إلى المخالفة و نصرتكم إلى الخذلان و المنابذة فأبيتم إباء المخالفين الجفاة و المنابذين العصاة بما (نهكتكم) و هزلتكم (الحرب) بطول مدّتها و ثقل أوزارها.
و نبّه على خطائهم في القعود عنها بقوله (و قد و اللّه أخذت منكم) طائفة (و تركت) طائفة فلم تستأصلكم بالمرّة بل بقيت منكم بقيّة (و هي لعدوّكم) أنكى و (أنهك) إذ لم يبق منهم إلّا حشاشة ضعيفة فانّ القتل في أهل الشام كان أشدّ استحرارا و الوهن فيهم أظهر، و لو لا فساد أهل العراق لاستوصل الشّام و خلص إلى معاوية فأخذه بعنقه، و لم يكن قد بقي من قوّة أهل الشام إلّا حركة المذبوح و مثل حركة ذنب الوزغة عند قتلها يضطرب يمينا و شمالا.
ثمّ أخذ في التّشكّي منهم بسوء فعلهم فقال (لقد كنت أمس أميرا فأصبحت
اليوم مأمورا) لا يخفى حسن المقابلة بين القرينتين و هو من مقابلة الثلاثة بالثلاثة.
و كذا في قوله (و كنت أمس ناهيا فأصبحت اليوم منهيّا) ثمّ ساق الكلام مساق التّعريض و التقريع فقال (و قد أحببتم البقاء و ليس لي أن أحملكم على ما تكرهون) من القتال و القتل، و عدم حمله لهم على ذلك إمّا لعدم القدرة أو لعدم اقتضاء المصلحة ليقضي اللّه أمرا كان مفعولا.
|