فلا تنافسوا في عزّ الدّنيا و فخرها، و لا تعجبوا بزينتها و نعيمها، و لا تجزعوا من ضرّآئها و بؤسها، فإنّ عزها و فخرها إلى انقطاع، و إنّ زينتها و نعيمها إلى زوال، و ضرّائها و بؤسها إلى نفاد، و كلّ مدّة فيها إلى انتهاء، و كلّ حيّ فيها إلى فناء، أو ليس لكم في آثار الأوّلين مزدجر، و في آبائكم الماضين تبصرة و معتبر إن كنتم تعقلون، أو لم تروا إلى الماضين منكم لا يرجعون، و إلى الخلف الباقين لا يبقون، أولستم ترون أهل الدّنيا يمسون و يصبحون على أحوال شتّى: فميّت يبكى، و آخر يعزّى و صريع مبتلى و عايد يعود، و آخر بنفسه يجود، و طالب للدّنيا و الموت يطلبه، و غافل و ليس بمغفول عنه، و على أثر الماضي ما يمضي الباقي، ألا فاذكروا هادم اللّذّات، و منغّص الشّهوات، و قاطع الأمنيّات عند المساورة للأعمال القبيحة، و استعينوا اللّه على أداء واجب حقّه، و ما لا يحصى من أعداد نعمه و إحسانه.
اللغة
(حدوت) بالابل حثثتها على السير بالحداء و زان غراب و هو الغناء لها و حدوثه على كذا بعثته عليه و (الصّريع) من الأغصان ما تهدّل و سقط إلى الأرض و منه قيل للقتيل صريع، و في بعض النّسخ ضريع بالضاد المعجمة من ضرع ضرعا وزان شرف ضعف، و أضرعته الحمى أوهنته و (المساورة) المواثبة.
الاعراب
الفاء في قوله عليه السّلام: فلا تنافسوا فصيحة، و الهمزة في قوله عليه السّلام أو ليس لكم استفهام على سبيل الانكار الابطالى و يحتمل جعلها تقريرا بما بعد النفى كما ذهب إليه الزمخشرى في قوله: أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ.
و مثلها الهمزة في قوله أو لستم ترون آه، و ما في قوله عليه السّلام ما يمضى الباقي مصدرية أو زايدة.
المعنى
و إذا كانت الدّنيا بهذه المثابة (فلا تنافسوا) أى لا تحاسدوا و لا تضنّوا (في عزّ الدّنيا و فخرها و لا تعجبوا بزينتها و نعيمها و لا تجزعوا من ضرّائها و بؤسها) نهى عن المنافسة فيها و الاعجاب بها و الجزع منها معلّلا وجوب الانتهاء عن الأوّل بقوله (فانّ عزّها و فخرها إلى انقطاع) و ما كان منقطعا لا يحرص عليه لبيب و لا ينافس فيه أريب، و علّل وجوب الانتهاء عن الثاني بقوله (و زينتها و نعيمها إلى زوال) و ما كان زائلا لا يرغب إليه العاقل و لا يعجب به إلّا جاهل، و عن الثّالث بقوله (و ضرّائها و بؤسها إلى نفاد) و ما كان نافدا فانيا أحرى بأن يصبر عليه و لا يجزع منه (و كلّ مدّة فيها إلى انتهاء) سواء كانت مدّة عزّ و منعة أو زينة و نعمة أو ضرّ و شدّة (و كلّ حىّ فيها إلى فناء) سواء كان ذى شرف و رفعة أو ذلّ و محنة أو ابتهاج و لذّة
- و كلّ شباب أو جديد إلى البلىو كلّ امرء يوما إلى اللّه صائر
(أ و ليس لكم في آثار الأوّلين) من الاخوان و الأقران و الا لّاف و الأسلاف (مزدجر و في آبائكم الماضين) الأقربين منهم و الأبعدين (تبصرة و معتبر إن كنتم تعقلون) بلى في النظر إلى ادنى ما جرى عليهم تبصرة و اعتبار، و الفكر في أهون ما لا قوة تذكرة و انزجار عدالى ذكر المنقول إلى الثرى و المدفوع إلى هول ما ترى
- هوى مصرعا في لحده و توزّعتمواريثه أرحامه و الأواصر
و أنحوا على أمواله بخصومة «يخضمونها خ» فما حامد منهم عليها و شاكر
- فيا عامر الدّنيا و يا ساعيا لهاو يا آمنا من أن تدور الدّوائر
كيف أمنت هذه الحالة و أنت صائر إليها لا محالة (أو لم تروا إلى الماضين منكم لا يرجعون) فما لهم يذهبون و لا يعودون، أرضوا بالمقام فأقاموا، أم تركوا فناموا (و إلى الخلق الباقين لا يبقون) بل يمضون ارسالا و يحتذون مثالا قال قسّ ابن ساعدة الأيادى:
- في الأولين الذاهبين من القرون لنا بصائرو رأيت قومي نحوها يمضي الأكابر و الأصاغر
- لا يرجع الماضى إلىّ و لا من الباقين غابرأيقنت أنى لا محالة حيث صار القوم صائر
و قال زهير بن أبي سلمى:
- ألا ليت شعرى هل يرى الناس ما أرىمن الأمر أو يبدو لهم ما بداليا
- بدى لى أنّ النّاس تفنى نفوسهمو أموالهم و لا أرى الدّهر فانيا
- و إني متى أهبط من الأرض تلعة أجد أثرا قبلى جديدا و عافيا
- أراني إذا أصبحت أصبحت ذا هوىفثمّ إذا أمسيت أمسيت عاديا
- إلى حفرة أهوى اليها مضمّةيحثّ إليها سايق من ورائيا
- كأنّي و قد خلّفت سبعين حجّة خلعت بها ان منكبى ردائيا
- بدالى انّي لست مدرك ما مضىو لا سابق شيئا إذا كان جائيا
- و ما أن أرى نفسي تقيها عزيمتيو ما أن تقى نفسى كرائم ماليا
- ألا لا أرى على الحوادث باقياو لا خالدا إلّا الجبال الرّواسيا
- و إلّا السّماء و البلاد و ربّناو أيّامنا معدودة و اللّياليا
- أراني إذا ما شئت لا قيت آيةتذكّرني بعض الذى كنت ناسيا
- ألم تر أنّ اللّه أهلك تبعاو أهلك لقمان بن عاد و عاديا
- و أهلك ذا القرنين من قبل ما يرىو فرعون جبّار معا و النّجاشيا
- ألا لا أرى ذا امّة أصبحت بهفتتركه الأيام و هي كماهيا
- ألم تر للنعمان كان بنجوة من الشّر لو أنّ أمرء كان ناجيا
- فغيّر عنه رشد عشرين حجّةمن الدّهر يوم واحد كان غاديا
- فلم أر مسلوبا له مثل ملكهأقلّ صديقا صافيا و مواليا
- فأين الذي قد كان يعطى جياده بأرسانهنّ و الحسان الحواليا
- و أين الذين قد كان يعطيهم القرىبغلّاتهنّ و المثين الغواليا
- و أين الذين يحضرون جفانهإذا قدّمت ألقوا عليها المراسيا
- رأيتهم لم يشركوا بنفوسهممنيّته لمّا رأوا انهاهيا
هذا و لمّا ارشد عليه السّلام إلى الاتّعاظ بأحوال السّلف الماضين و بفناء الغابرين الباقين نبّه على اختلاف حالات أهل الدّنيا ليستدلّ به السامعون على عدم بقائها و يستفيدوا به عبرة اخرى فقال (أو لستم ترون أهل الدّنيا يمسون و يصبحون على أحوال شتّى) و حالات مختلفة (ف) منهم (ميّت يبكى) عليه و يشقّ الجيوب لديه و يخرج من سعة قصره إلى ضيق قبره و يحثّون بأيديهم عليه التراب و يكثرون عنده التلدّد و الانتحاب (و آخر يعزّى) و يسلّى اذا يئس عن برء عليله أو جزم بموت خليله (و صريع مبتلى) بأنواع الأوجاع و الأسقام و طوارق الأمراض و الآلام (و عائد يعود) المريض عند المرض و يتحسّر عليه إذا شاهده على غصص الجرض (و آخر بنفسه يجود) ابلس عنه زوّاره و عوّاده و أسلمه أهله و أولاده و غضّوا بأيديهم عينيه و مدّوا الى جنبيه يديه و رجليه و هو في سكرة ملهثة و غمرة كارثة و أنّه موجعة و سوقة مكربة و جذبة متعبة.
(و) منهم (طالب للدّنيا) ساع لها (و الموت يطلبه) و يحثّه حتّى يدخله في حفرته (و) منهم (غافل) عمّا خلقه اللّه لأجله (و ليس بمغفول عنه) بل اللّه عالم به و مجزيه بأعماله (و على أثر الماضي ما يمضي الباقي) قال سيّد العابدين عليه السّلام في هذه المعنى:
- إذا كان هذا نهج من كان قبلنافانّا على آثارهم نتلا حق
- فكن عالما أن سوف تدرك من مضىو لو عصمتك الرّاسيات الشّواهق
ثمّ أمرهم عليه السّلام بذكر الموت و وصفه بلوازمه المنفّرة عنه فقال عليه السّلام (ألا فاذكروا هادم اللّذات) الدنيوية (و منغّص الشهوات) النفسانية (و قاطع الامنيّات) و الآمال الباطلة (عند المساورة) و المواثبة (للأعمال القبيحة) لترتدعوا بذكره عنها (و استعينوا اللّه) سبحانه و اطلبوا منه التوفيق (على أداء واجب حقّه) الذى أوجبه عليكم و هو الاتيان بالطّاعات و القيام بوظايف العبادات (و) على أداء واجب (ما لا يحصى من أعداد نعمه و احسانه) الذي أنعمه عليكم و أحسنه إليكم و هو القيام بوظايف الحمد و الثبات بمراسم الثناء. قال عليه السّلام في بعض كلماته: أيّها النّاس إنّ للّه في كلّ نعمة حقّا، فمن أدّاه زاده، و من قصّر عنه خاطر بزوال النعمة و تعجّل العقوبة، فليراكم اللّه من النعمة و جلين، كما يراكم من الذنوب فرقين.
|