و من خطبة له عليه السّلام
و هى المأة و الثامنة و الخمسون من المختار فى باب الخطب و لقد أحسنت جواركم، و أحطت بجهدي من ورائكم، و أعتقتكم من ربق الذّلّ، و حلق الضّيم، شكرا منّي للبرّ القليل، و إطراقا عمّا أدركه البصر، و شهده البدن من المنكر الكثير.
اللغة
(الجوار) بالضمّ و قد يكسر المجاورة و (الرّبق) بالكسر وزان حمل حبل فيه عدّة عرى يشدّ به البهم و كلّ عروة ربقة بالكسر و الفتح و يجمع على ربق كعنب و أرباق كأصحاب و رباق كجبال و (الحلق) بالتحريك جمع الحلقة بسكون اللّام علي غير القياس و ربّما يجمع على حلق بالسّكون كبدرة و بدر و على حلّق كقصعة و قصع، و حكى يونس عن أبي عمرو بن العلا أنّ الحلقة بالفتح، و على هذا فالجمع بحذف الهاء قياس كقصبة و قصب، قاله الفيومى في مصباح اللّغة.
الاعراب
الواو في قوله: و لقد، للقسم و المقسم به محذوف لكونه معلوما، و شكرا مفعول له للأفعال المتقدّمة على سبيل التنازع، و من في قوله: من المنكر، بيان لما أدركه.
المعنى
الظّاهر أنّه خاطب به أهل الكوفة، و الغرض منه المنّ على المخاطبين و التّنبيه على حسن مداراته عليه السّلام معهم و صفحه عنهم و الغض عن خطيئاتهم على كثرتها كما قال (و لقد أحسنت جواركم) أي مجاورتكم أى كنت لكم جار حسن و قد وقع نظير التعبير بهذه اللّفظة في كلامه عليه السّلام المأة و التّاسع و العشرين حيث قال هناك: و إنّما كنت جارا جاوركم بدنى أيّاما، و أراد بمجاورته لهم مطلق المصاحبة و المعاشرة على سبيل الكناية.
و يجوز أن يراد به معناه الحقيقى، لأنّه عليه السّلام ارتحل من المدينة إلى البصرة لجهاد النّاكثين، و احتاج إلى الاستنصار بأهل الكوفة إذ لم يكن جيش الحجاز وافيا بمقابلتهم، ثمّ اتّصلت تلك الفتنة بفتنة أهل الشّام فاضطرّ إلى المقام بينهم و صار جارا لهم كما تقدّم الاشارة إلى ذلك في الكلام السّبعين و شرحه.
(و أحطت بجهدى من ورائكم) قيل: أراد بالاحاطة من الوراء دفع من يريدهم بشرّ لأنّ العدوّ غالبا يكون من وراء الهارب.
أقول: بل الظّاهر أنّه أراد أنّه كان به عليه السّلام قوّة ظهرهم و شدّ ازرهم (و أعتقتكم من ربق الذّل و حلق الضّيم) و الظلم أراد به أنّه دفع عنهم ذلّ الاسر و ظلم الأعداء، و المقصود حمايته عليه السّلام لهم و اعتزازهم به (شكرا منّي للبرّ القليل) أى ثناء منّى و محمدة لأفعالكم الحسنة على قلّتها (و إطراقا) أى سكوتا و غضّا (عمّا أدركه البصر و شهده البدن من المنكر الكثير) و إطراقه عنهم مع مشاهدتهم على المنكرات على كثرتها إمّا لعدم تمكّنه من الانكار و الرّدع بالعنف و القهر، أولا نجراره إلى ما هو أعظم فسادا و مفسدة ممّاهم عليه.
قال الشّارح البحراني: و ظاهر أنّهم كانوا غير معصومين، و محال أن يستقيم دولة أو يتمّ ملك بدون الاحسان إلى المحسنين من الرّعيّة و التّجاوز عن بعض المسيئين.
|