178: آلَةُ الرِّئَاسَةِ سَعَةُ الصَّدْرِ الرئيس محتاج إلى أمور منها الجود و منها الشجاعة- و منها و هو الأهم سعة الصدر- فإنه لا تتم الرئاسة إلا بذلك- . و كان معاوية واسع الصدر كثير الاحتمال- و بذلك بلغ ما بلغ
سعة الصدر و ما ورد في ذلك من حكايات
و نحن نذكر من سعة الصدر حكايتين- دالتين على عظم محله في الرئاسة- و إن كان مذموما في باب الدين- و ما أحسن قول الحسن فيه- و قد ذكر عنده عقيب ذكر أبي بكر و عمر- فقال كانا و الله خيرا منه و كان أسود منهما- . الحكاية الأولى- وفد أهل الكوفة على معاوية- حين خطب لابنه يزيد بالعهد بعده- و في أهل الكوفة هانئ بن عروة المرادي- و كان سيدا في قومه- فقال يوما في مسجد دمشق و الناس حوله- العجب لمعاوية يريد أن يقسرنا على بيعة يزيد- و حاله حاله و ما ذاك و الله بكائن- و كان في القوم غلام من قريش جالسا- فتحمل الكلمة إلى معاوية- فقال معاوية أنت سمعت هانئا يقولها قال نعم- قال فاخرج فأت حلقته فإذا خف الناس عنه فقل له- أيها الشيخ قد وصلت كلمتك إلى معاوية- و لست في زمن أبي بكر و عمر- و لا أحب أن تتكلم بهذا الكلام فإنهم بنو أمية- و قد عرفت جرأتهم و إقدامهم- و لم يدعني إلى هذا القول لك- إلا النصيحة و الإشفاق عليك- فانظر ما يقول فأتني به- . فأقبل الفتى إلى مجلس هانئ- فلما خف من عنده دنا منه فقص عليه الكلام- و أخرجه مخرج النصيحة له- فقال هانئ و الله يا ابن أخي ما بلغت نصيحتك كل ما أسمع- و إن هذا الكلام لكلام معاوية أعرفه- فقال الفتى و ما أنا و معاوية و الله ما يعرفني- قال فلا عليك إذا لقيته فقل له يقول لك هانئ- و الله ما إلى ذلك من سبيل انهض يا ابن أخي راشدا- . فقام الفتى فدخل على معاوية فأعلمه- فقال نستعين بالله عليه- . ثم قال معاوية بعد أيام للوفد ارفعوا حوائجكم- و هانئ فيهم فعرض عليه كتابه فيه ذكر حوائجه- فقال يا هانئ ما أراك صنعت شيئا زد- فقام هانئ فلم يدع حاجة عرضت له إلا و ذكرها- ثم عرض عليه الكتاب- فقال أراك قصرت فيما طلبت زد- فقام هانئ فلم يدع حاجة لقومه و لا لأهل مصره- إلا ذكرها- ثم عرض عليه الكتاب- فقال ما صنعت شيئا زد- فقال يا أمير المؤمنين حاجة بقيت قال ما هي- قال أن أتولى أخذ البيعة- ليزيد ابن أمير المؤمنين بالعراق- قال افعل فما زلت لمثل ذلك أهلا- فلما قدم هانئ العراق- قام بأمر البيعة ليزيد بمعونة من المغيرة بن شعبة- و هو الوالي بالعراق يومئذ- .
و أما الحكاية الثانية-
كان مال حمل من اليمن إلى معاوية- فلما مر بالمدينة وثب عليه الحسين بن علي ع- فأخذه و قسمه في أهل بيته و مواليه و كتب إلى معاوية- من الحسين بن علي إلى معاوية بن أبي سفيان- أما بعد فإن عيرا مرت بنا من اليمن- تحمل مالا و حللا و عنبرا و طيبا إليك- لتودعها خزائن دمشق و تعل بها بعد النهل بني أبيك- و إني احتجت إليها فأخذتها و السلام
- . فكتب إليه معاوية- من عند عبد الله معاوية أمير المؤمنين- إلى الحسين بن علي- سلام عليك أما بعد- فإن كتابك ورد علي تذكر أن عيرا مرت بك من اليمن- تحمل مالا و حللا و عنبرا و طيبا إلي لأودعها خزائن دمشق- و أعل بها بعد النهل بني أبي- و أنك احتجت إليها فأخذتها- و لم تكن جديرا بأخذها إذ نسبتها إلي- لأن الوالي أحق بالمال ثم عليه المخرج منه- و ايم الله لو ترك ذلك حتى صار إلي- لم أبخسك حظك منه- و لكني قد ظننت يا ابن أخي أن في رأسك نزوة- و بودي أن يكون ذلك في زماني فأعرف لك قدرك- و أتجاوز عن ذلك- و لكني و الله أتخوف أن تبتلي بمن لا ينظرك فواق ناقة- و كتب في أسفل كتابه-
يا حسين بن علي ليس ما جئت بالسائغ يوما في العلل
أخذك المال و لم تؤمر به
إن هذا من حسين لعجل
قد أجزناها و لم نغضب لها و احتملنا من حسين ما فعل
يا حسين بن علي ذا الأمل
لك بعدي وثبة لا تحتمل
و بودي أنني شاهدها فإليها منك بالخلق الأجل
إنني أرهب أن تصلى بمن
عنده قد سبق السيف العذل
- . و هذه سعة صدر و فراسة صادقة
( شرح نهج البلاغة(ابن أبي الحديد)، ج 18 ، صفحه ى 407-409)
|