فاللّه اللّه في عاجل البغي، و آجل و خامة الظّلم، و سوء عاقبة الكبر، فإنّها مصيدة إبليس العظمى، و مكيدته الكبرى، الّتي تساور قلوب الرّجال مساورة السّموم القاتلة، فما تكدي أبدا، و لا تشوى أحدا لا عالما لعلمه، و لا مقلّا في طمره
اللغة
(البغي) الظلم و العلوّ و الاستطالة و العدول عن الحقّ و تجاوز الحدّ و (وخم) وخامة كشرف شرافة ثقل و طعام وخيم ثقيل ردى غير موافق و (المصيدة) بكسر الميم و سكون الصاد المهملة و فتح الدال آلة الصّيد من الشبكة و نحوها و (المكيدة) و زان معيشة مصدر بمعني الكيد و (ساوره) مساورة دائبة، و سورة الخمر و غيرها حدّتها، و من البرد شدّته، و من السّلطان سطوته و اعتداؤه. و (اكدى) الحافر إذا بلغ في حفره إلى موضع صلب لا يمكنه حفره، و اكدت المطالب إذا صعبت في وجه طالبها فعجز عنها و (اشوت) الضربة تشوى أخطات فلم تصب المقتل، و أشواه يشويه إذا رماه فلم يصب مقتله، و رجل (مقلّ) و أقلّ فقير و (الطمر) بالكسر الثوب الخلق و البالى من الثياب من غير الصوف و الجمع أطمار.
الاعراب
قوله: فانّها مصيدة إبليس، الضمير راجع إلى كلّ من البغي و الظلم و الكبر أو الأخير فقط و هو الأظهر، و التأنيث باعتبار الخبر كما في قولهم: و ما كانت امّك فانّ الضمير إذا وقع بين مرجع مذكر و خبر مؤنّث أو بالعكس فالأولى رعاية جانب الخبر كما صرّح به علماء الأدب.
المعنى
اعلم أنه لما نبّه في الفصل السابق على أنّ المطلوب من العباد هو التواضع و التذلّل و اخلاص النية و العمل، مستشهدا على ذلك ببعث الأنبياء العظام و السفراء الكرام بحال الذلّ و الفاقة و الفقر و الخصاصة، و بوضع البيت الحرام بأقفر البلاد و أوعر الجبال، و ختم الفصل بأنّ التواضع و التذلّل باب مفتوح للفضل و الاحسان، و سبب ذلول للعفو و الغفران، عقّبه بهذا الفصل تذكيرا للمخاطبين، و ترغيبا لهم على ملازمة هذين الوصفين و الأخذ بهما، و تحذيرا لهم عن الأخذ بضدّهما و هو التكبر و الخيلاء، و تنبيها على أنّ الغرض الأصلي في وضع ساير العبادات من الصلاة و الزكاة و الصيام بكيفيّاتها المخصوصة أيضا هذا المعني أعني التذلّل و الاستكانة فقال عليه السّلام: (فاللّه اللّه في عاجل البغي و آجل و خامة الظلم و سوء عاقبة الكبر) أى اتقوا اللّه سبحانه و احذروه تعالى فيما يترتّب على البغي و الظلم عاجلا و آجلا من العقوبات الدنيويّة و الاخروية، و الاتيان في الأوّل بالعاجل و في الثاني بالاجل لمجرّد التفنن لا للاختصاص. و المعاني المتقدّمة للبغى كلّها محتملة هنا إلّا أنّ الأنسب الأظهر بمساق الخطبة أنّ المراد به العدول عن الحقّ و التجاوز عن الحد او السّعى فى الفساد، أو الخروج عن طاعة الامام و أمّا سوء عاقبة الكبر فلكونه مؤدّيا إلى الهلاك الاخروى الموجب للعذاب الأليم و النكال العظيم كما يفصح عنه تعليله وجوب الحذر عنه أو عنه و عن سابقيه بقوله: (فانّها مصيدة ابليس العظمى) الّتى يصيد بها القلوب و يأخذها و يملكها أخذ الصياد للصيّد بشركه و حبائله.
قال الشارح البحرانى: و وصفها بالعظم باعتبار قوّة الكبر و كثرة ما يستلزمه من الرذائل.
(و مكيدته الكبرى) أى خديعته الكبيرة و كيده القوى، لأنّه يحسّنه فى نظر المتكبّر و يزيّنه و يذكر محاسنه مع أنها مقابح في الواقع، فيوقعه فيه بتمويهه و تلبيسه من حيث لا يعلم.
و وصفه بالكبر لما نبّه عليه بقوله (الّتى تساور قلوب الرّجال مساورة السّموم القاتلة) فانّ تزيين ما فى باطنه تلك المفسدة العظيمة و ذلك السّم الناقع، و تحسينه في نظر المتكبّر و ايقاعه له فيها من حيث لا يشعر إن هو إلّا كيد عظيم و حيلة كبيرة.
و كنّى بتساورها عن شدّة تأثيرها و حدّتها فى القلوب، و شبّهه بمساورة السّموم القاتلة تأكيدا للشدّة و توضيحا لها، بل نقول إنّها أشدّ تأثيرا منها، لأنّ تأثير السموم فى البدن و تأثير تلك الخصلة الذميمة فى القلب، و الأوّل موجب للألم الجسمانى و الهلاك الدنيوى، و الثاني للألم الرّوحانى و الهلاك الاخروى.
و قوله (فما تكدى أبدا و لا تشوى أحدا) تفريع على التشبيه و توضيح لوجه الشبه، يعنى أنّ السّموم القاتلة كما لا يمنع من تأثيرها فى الأبدان مانع، و لا يقاومها شي ء من الطبايع، و لا تخطى من اصابة مقاتل احد من آحاد الناس، فكذلك تلك المكيدة لابليس لا يردّها من مساورة القلوب شي ء أصلا، و لا يدفعها منها دافع أبدا، و لا يكاد أن يقاومها أحد من النّاس أو يقابلها واحد من العقول، فتخطى من أصابتها و اهلاكها.
و لمزيد توكيد العموم المستفادة من قوله لا تشوى أحدا من حيث كونه نكرة في سياق النفي أتى بقوله (لا عالما بعلمه و لا مقلّا في طمره) يعني أنّ العالم مع ماله من الكياسة و العلم بقبح هذه الصّفة الخبيثة و كونها من مكائد ابليس لا يكاد ينجو منها فضلا عن الجاهل، و كذلك المقلّ المفتقر مع فقره و اعوازه للمال الّذى يتكبّر به لا يخلص من تلك المكيدة فكيف بالغني الواجد لأسباب الطغيان و الخيلاء، فانّ الانسان ليطغى أن رآه استغنى، هذا.
|