482 وَ قَالَ ع: مَا الْمُجَاهِدُ الشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَعْظَمَ أَجْراً- مِمَّنْ قَدَرَ فَعَفَّ- لَكَادَ الْعَفِيفُ أَنْ يَكُونَ مَلَكاً مِنَ الْمَلَائِكَةِ
نبذ و حكايات حول العفة
قد تقدم القول في العفة و هي ضروب- عفة اليد و عفة اللسان و عفة الفرج و هي العظمى- و
قد جاء في الحديث المرفوع من عشق فكتم و عف و صبر فمات- مات شهيدا و دخل الجنة
و في حكمة سليمان بن داود أن الغالب لهواه أشد من الذي يفتح المدينة وحده
- . نزل خارجي على بعض إخوانه منهم مستترا من الحجاج- فشخص المنزول عليه لبعض حاجاته و قال لزوجته- يا ظمياء أوصيك بضيفي هذا خيرا- و كانت من أحسن الناس- فلما عاد بعد شهر قال لها كيف كان ضيفك- قالت ما أشغله بالعمى عن كل شي ء- و كان الضيف أطبق جفنيه فلم ينظر إلى المرأة- و لا إلى منزلها إلى أن عاد زوجها- .
و قال الشاعر-
إن أكن طامح اللحاظ فإني و الذي يملك القلوب عفيف
- . خرجت امرأة من صالحات نساء قريش إلى بابها لتغلقه- و رأسها مكشوف- فرآها رجل أجنبي فرجعت و حلقت شعرها- و كانت من أحسن النساء شعرا فقيل لها في ذلك- قالت ما كنت لأدع على رأسي شعرا رآه من ليس لي بمحرم- . كان ابن سيرين يقول- ما غشيت امرأة قط في يقظة و لا نوم- غير أم عبد الله- و إني لأرى المرأة في المنام و أعلم أنها لا تحل لي- فأصرف بصري عنها- . و قال بعضهم-
و إني لعف عن فكاهة جارتي و إني لمشنوء إلي اغتيابها
إذا غاب عنها بعلها لم أكن لها
صديقا و لم تأنس إلي كلابها
و لم أك طلابا أحاديث سرها و لا عالما من أي حوك ثيابها
- . دخلت بثينة على عبد الملك بن مروان فقال- ما أرى فيك يا بثينة شيئا مما كان يلهج به جميل- فقالت إنه كان يرنو إلي بعينين- ليستا في رأسك يا أمير المؤمنين- قال فكيف صادفته في عفته- قالت كما وصف نفسه إذ قال-
لا و الذي تسجد الجباه له ما لي بما ضم ثوبها خبر
و لا بفيها و لا هممت به
ما كان إلا الحديث و النظر
- . و قال أبو سهل الساعدي دخلت على جميل في مرض موته- فقال يا أبا سهل رجل يلقى الله و لم يسفك دما حراما- و لم يشرب خمرا و لم يأت فاحشة- أ ترجو له الجنة قلت إي و الله فمن هو- قال إني لأرجو أن أكون أنا ذلك فذكرت له بثينة-
فقال إني لفي آخر يوم من أيام الدنيا- و أول يوم من أيام الآخرة- لا نالتني شفاعة محمد- إن كنت حدثت نفسي بريبة معها أو مع غيرها قط- . قال الشاعر-
قالت و قلت ترفقي فصلي حبل امرئ بوصالكم صب
صادق إذا بعلي فقلت لها
الغدر شي ء ليس من شعبي
ثنتان لا أصبو لوصلهما عرس الصديق و جارة الجنب
أما الصديق فلست خائنه
و الجار أوصاني به ربي
- . يقال إن امرأة ذات جمال- دعت عبد الله بن عبد المطلب إلى نفسها- لما كانت ترى على وجهه من النور- فأبى و قال
أما الحرام فالممات دونه و الحل لا حل فأستبينه
فكيف بالأمر الذي تبغينه
يحمي الكريم عرضه و دينه
- . راود توبة بن الحمير ليلى الأخيلية مرة عن نفسها- فاشمأزت منه و قالت-
و ذي حاجة قلنا له لا تبح بها فليس إليها ما حييت سبيل
لنا صاحب لا ينبغي أن نخونه
و أنت لأخرى صاحب و خليل
- . ابن ميادة-
موانع لا يعطين حبة خردل و هن زوان في الحديث أوانس
و يكرهن أن يسمعن في اللهو ريبة
كما كرهت صوت اللجام الشوامس
- . آخر-
بيض أوانس ما هممن بريبة كظباء مكة صيدهن حرام
يحسبن من لين الكلام زوانيا و يصدهن عن الخنا الإسلام
في الحديث المرفوع لا تكونن حديد النظر إلى ما ليس لك- فإنه لا يزني فرجك ما حفظت عينيك- و إن استطعت ألا تنظر إلى ثوب المرأة التي لا تحل لك فافعل- و لن تستطيع ذلك إلا بإذن الله
- . كان ابن المولى الشاعر المدني موصوفا بالعفة و طيب الإزار- فأنشد عبد الملك شعرا له من جملته-
و أبكي فلا ليلى بكت من صبابة لباك و لا ليلى لذي البذل تبذل
و أخنع بالعتبى إذا كنت مذنبا
و إن أذنبت كنت الذي أتنصل
- . فقال عبد الملك من ليلى هذه- إن كانت حرة لأزوجنكها- و إن كانت أمة لأشترينها لك بالغة ما بلغت- فقال كلا يا أمير المؤمنين- ما كنت لأصعر وجه حر أبدا في حرته و لا في أمته- و ما ليلى التي أنست بها إلا قوسي هذه- سميتها ليلى لأن الشاعر لا بد له من النسيب- . ابن الملوح المجنون
كأن على أنيابها الخمر مجه بماء الندى من آخر الليل غابق
و ما ذقته إلا بعيني تفرسا
كما شيم من أعلى السحابة بارق
- . هذا مثل بيت الحماسة-
بأعذب من فيها و ما ذقت طعمه و لكنني فيما ترى العين فارس
- . شاعر-
ما إن دعاني الهوى لفاحشة إلا نهاني الحياء و الكرم
و لا إلى محرم مددت يدي و لا مشت بي لريبة قدم
- . العباس بن الأحنف-
أ تأذنون لصب في زيارتكم فعندكم شهوات السمع و البصر
لا يضمر السوء إن طال الجلوس به
عف الضمير و لكن فاسق النظر
- . قال بعضهم رأيت امرأة مستقبلة البيت في الموسم- و هي في غاية الضر و النحافة رافعة يديها تدعو- فقلت لها هل لك من حاجة- قالت حاجتي إن تنادي في الموقف بقولي-
تزود كل الناس زادا يقيمهم و ما لي زاد و السلام على نفسي
- . ففعلت و إذا أنا بفتى منهوك فقال أنا الزاد- فمضيت به إليها فما زادوا على النظر و البكاء- ثم قالت له انصرف مصاحبا- فقلت ما علمت أن التقاء كما يقتصر فيه على هذا- فقالت أمسك يا فتى- أ ما علمت أن ركوب العار و دخول النار شديد- . قال بعضهم-
كم قد ظفرت بمن أهوى فيمنعني منه الحياء و خوف الله و الحذر
و كم خلوت بمن أهوى فيقنعني
منه الفكاهة و التحديث و النظر
أهوى الملاح و أهوى أن أجالسهم و ليس لي في حرام منهم وطر
كذلك الحب لا إتيان معصية
لا خير في لذة من بعدها سقر
- . قال محمد بن عبد الله بن طاهر لبنيه- اعشقوا تظرفوا و عفوا تشرفوا- . وصف أعرابي امرأة طرقها فقال- ما زال القمر يرينيها فلما غاب أرتنيه- فقيل فما كان بينكما- قال ما أقرب ما أحل الله مما حرم- إشارة في غير بأس و دنو من غير مساس- و لا وجع أشد من الذنوب- . كثير عزة
و إني لأرضى منك يا عز بالذي لو أبصره الواشي لقرت بلابله
بلا و بألا أستطيع و بالمنى
و بالوعد حتى يسأم الوعد آمله
و بالنظرة العجلي و بالحول ينقضي أواخره لا نلتقي و أوائله
- . و قال بعض الظرفاء- كان أرباب الهوى يسرون فيما مضى- و يقنعون بأن يمضغ أحدهم لبانا قد مضغته محبوبته- أو يستاك بسواكها و يرون ذاك عظيما- و اليوم يطلب أحدهم الخلوة و إرخاء الستور- كأنه قد أشهد على نكاحها أبا سعيد و أبا هريرة- . و قال أحمد بن أبي عثمان الكاتب-
و إني ليرضيني المرور ببابها و أقنع منها بالوعيد و بالزجر
- . قال يوسف بن الماجشون- أنشدت محمد بن المنكدر قول وضاح اليمن-
إذا قلت هاتي نوليني تبسمت و قالت معاذ الله من فعل ما حرم
فما نولت حتى تضرعت حولها
و عرفتها ما رخص الله في اللمم
- . فضحك و قال إن كان وضاح لفقيها في نفسه- . قال آخر-
فقالت بحق الله إلا أتيتنا إذا كان لون الليل لون الطيالس
فجئت و ما في القوم يقظان غيرها
و قد نام عنها كل وال و حارس
فبتنا مبيتا طيبا نستلذه جميعا و لم أمدد لها كف لامس
- . مرت امرأة حسناء بقوم من بني نمير- مجتمعين في ناد لهم فرمقوها بأبصارهم- . و قال قائل منهم ما أكملها لو لا أنها رسحاء- فالتفتت إليهم و قالت و الله يا بني نمير- ما أطعتم الله و لا الشاعر قال الله تعالى- قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ- . و قال الشاعر-
فغض الطرف إنك من نمير فلا كعبا بلغت و لا كلابا
- . فأخجلتهم- . و قال أبو صخر الهذلي من شعر الحماسة-
لليلة منها تعود لنا من غير ما رفث و لا إثم
أشهى إلى نفسي و لو برحت
مما ملكت و من بني سهم
- . آخر-
و ما نلت منها محرما غير أنني أقبل بساما من الثغر أفلجا
و الثم فاها آخذا بقرونها
و أترك حاجات النفوس تحرجا
- . و أعف من هذا الشعر قول عبد بني الحسحاس على فسقه-
لعمر أبيها ما صبوت و لا صبت إلي و إني من صبا لحليم
سوى قبلة أستغفر الله ذنبها
سأطعم مسكينا لها و أصوم
- . و قال آخر-
و مجدولة جدل العناق كأنما سنا البرق في داجي الظلام ابتسامها
ضربت لها الميعاد ليست بكنة
و لا جارة يخشى على ذمامها
فلما التقينا قالت الحكم فاحتكم سوى خلة هيهات منك مرامها
فقلت معاذ الله أن أركب التي
تبيد و يبقى في المعاد أثامها
- .قوله ليست بكنة و لا جارة يخشى علي ذمامها- مأخوذ من قول قيس بن الخطيم-
و مثلك قد أحببت ليست بكنة و لا جارة و لا حليلة صاحب
- . و هذا الشاعر قد زاد عليه بقوله و لا حليلة صاحب- . و أنشد ابن مندويه لبعضهم-
أنا زاني اللسان و الطرف إلا أن قلبي يعاف ذاك و يأبى
لا يراني الإله أشرب إلا
كل ما حل شربه لي و طابا
- . آخر-
نلهو بهن كذا من غير فاحشة لهو الصيام بتفاح البساتين
- . بشار بن برد-
قالوا حرام تلاقينا فقلت لهم ما في التزام و لا في قبلة حرج
من راقب الناس لم يظفر بحاجته
و فاز بالطيبات الفاتك اللهج
- . البيت الآخر مثل قول القائل-
من راقب الناس مات هما و فاز باللذة الجسور
- . أبو الطيب المتنبي-
و ترى الفتوة و المروءة و الأبوة في كل مليحة ضراتها
هن الثلاث المانعاتي لذتي
في خلوتي لا الخوف من تبعاتها
إني على شغفي بما في خمرها لأعف عما في سراويلاتها
- .كان الصاحب رحمه الله يستهجن قوله- عما في سراويلاتها- و يقول إن كثيرا من العهر أحسن من هذه العفة- و معنى البيت الأول- أن هذه الخلال الثلاث تراهن الملاح ضرائر لهن- لأنهن يمنعنه عن الخلوة بالملاح و التمتع بهن- ثم قال إن هذه الخلال هي التي تمنعه- لا الخوف من تبعاتها- و قال قوم هذا تهاون بالدين و نوع من الإلحاد- و عندي أن هذا مذهب للشعراء معروف- لا يريدون به التهاون بالدين- بل المبالغة في وصف سجاياهم و أخلاقهم بالطهارة- و أنهم يتركون القبيح لأنه قبيح- لا لورود الشرع به و خوف العقاب منه- و يمكن أيضا أن يريد بتبعاتها تبعات الدنيا- أي لا أخاف من قوم هذه المحبوبة التي أنست بها- و لا أشفق من حربهم و كيدهم- فأما عفة اليد و عفة اللسان فهما باب آخر- و قد ذكرنا طرفا صالحا من ذلك- في الأجزاء المتقدمة عند ذكرنا الورع- . و
في الحديث المرفوع لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين- حتى يترك ما لا بأس به حذار ما به البأس
- . و قال أبو بكر في مرض موته- إنا منذ ولينا أمر المسلمين- لم نأخذ لهم درهما و لا دينارا- و أكلنا من جريش الطعام- و لبسنا من خشن الثياب- و ليس عندنا من في ء المسلمين إلا هذا الناضح- و هذا العبد الحبشي و هذه القطيفة- فإذا قبضت فادفعوا ذلك إلى عمر- ليجعله في بيت مال المسلمين- فلما مات حمل ذلك إلى عمر فبكى كثيرا ثم قال- رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده- . قال سليمان بن داود- يا بني إسرائيل أوصيكم بأمرين أفلح من فعلهما- لا تدخلوا أجوافكم إلا الطيب- و لا تخرجوا من أفواهكم إلا الطيب- .
و قال بعض الحكماء- إذا شئت أن تعرف ربك معرفة يقينية- فاجعل بينك و بين المحارم حائطا من حديد- فسوف يفتح عليك أبواب معرفته- . و مما يحكى من ورع حسان بن أبي سنان- أن غلاما له كتب إليه من الأهواز- أن قصب السكر أصابته السنة آفة- فابتع ما قدرت عليه من السكر- فإنك تجد له ربحا كثيرا فيما بعد- فابتاع و طلب منه ما ابتاعه بعد قليل- بربح ثلاثين ألف درهم- فاستقال البيع من صاحبه- و قال إنه لم يعلم ما كنت أعلم حين اشتريته منه- فقال البائع قد علمت الآن مقدار الربح- و قد طيبته لك و أحللتك- فلم يطمئن قلبه و ما زال حتى رده عليه- . يقال إن غنم الغارة اختلطت بغم أهل الكوفة- فتورع أبو حنيفة أن يأكل اللحم- و سأل كم تعيش الشاة قالوا سبع سنين- فترك أكل لحم الغنم سبع سنين- . و يقال إن المنصور حمل إليه بدرة- فرمى بها إلى زاوية البيت- فلما مات جاء بها ابنه حماد بن أبي حنيفة- إلى أبي الحسن بن أبي قحطبة- و قال إن أبي أوصاني أن أرد هذه عليك- و قال إنها كانت عندي كالوديعة- فاصرفها فيما أمرك الله به- فقال أبو الحسن رحم الله أبا حنيفة- لقد شح بدينه إذ سخت به نفوس أقوام- . و قال سفيان الثوري- انظر درهمك من أين هو و صل في الصف الأخير- .
جابر سمعت النبي ص يقول لكعب بن عجرة لا يدخل الجنة لحم نبت من السحت النار أولى به
- . الحسن لو وجدت رغيفا من حلال لأحرقته- ثم سحقته ثم جعلته ذرورا- ثم داويت به المرضى- .
عائشة قالت يا رسول الله من المؤمن- قال من إذا أصبح نظر إلى رغيفيه كيف يكتسبهما- قالت يا رسول الله أما إنهم لو كلفوا ذلك لتكلفوه- فقال لها إنهم قد كلفوه و لكنهم يعسفون الدنيا عسفا
حذيفة بن اليمان يرفعه أن قوما يجيئون يوم القيامة- و لهم من الحسنات كأمثال الجبال- فيجعلها الله هباء منثورا- ثم يؤمر بهم إلى النار- فقيل خلهم لنا يا رسول الله- قال إنهم كانوا يصلون و يصومون- و يأخذون أهبة من الليل- و لكنهم كانوا إذا عرض عليهم الحرام وثبوا عليه
( . شرح نهج البلاغه (ابن ابی الحدید) ج 20، ص 233 - 243)
|