يَا أَيُّهَا النَّاسُ طُوبَى لِمَنْ شَغَلَهُ عَيْبُهُ عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ وَ طُوبَى لِمَنْ لَزِمَ بَيْتَهُ وَ أَكَلَ قُوتَهُ وَ اشْتَغَلَ بِطَاعَةِ رَبِّهِ وَ بَكَى عَلَى خَطِيئَتِهِ فَكَانَ مِنْ نَفْسِهِ فِي شُغُلٍ وَ النَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ
و قد تقدم ذكر ما ورد عن النبي ص في الأمر بلزوم الجماعة و النهي عن الاختلاف و الفرقة ثم أمر ع بالعزلة و لزوم البيت و الاشتغال بالعبادة و مجانبة الناس و متاركتهم و اشتغال الإنسان بعيب نفسه عن عيوبهم و قد ورد في العزلة أخبار و آثار كثيرة و اختلف الناس قديما و حديثا فيها ففضلها قوم على المخالطة و فضل قوم المخالطة عليها فممن فضل العزلة سفيان الثوري و إبراهيم بن أدهم و داود الطائي و الفضيل بن عياض و سليمان الخواص و يوسف بن أسباط و بشر الحافي و حذيفة المرعشي و جمع كثير من الصوفية و هو مذهب أكثر العارفين و قول المتألهين من الفلاسفة و ممن فضل المخالطة على العزلة ابن المسيب و الشعبي و ابن أبي ليلى و هشام بن عروة و ابن شبرمة و القاضي شريح و شريك بن عبد الله و ابن عيينة و ابن المبارك فأما كلام أمير المؤمنين ع فيقتضي عند إمعان النظر فيه أن العزلة خير لقوم و أن المخالطة خير لقوم آخرين على حسب أحوال الناس و اختلافهم و قد احتج أرباب المخالطة يقول الله تعالى فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً و بقوله وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَ اخْتَلَفُوا و هذا ضعيف لأن المراد بالآية تفرق الآراء و اختلاف المذاهب في أصول الدين و المراد بتأليف القلوب و بالأخوة عدم الإحن و الأحقاد بينهم بعد استعار نارها في الجاهلية و هذا أمر خارج عن حديث العزلة و احتجوا بقول النبي ص المؤمن إلف مألوف و لا خير فيمن لا يألف و لا يؤلف و هذا أيضا ضعيف لأن المراد منه ذم سوء الخلق و الأمر بالرفق و البشر فلا يدخل تحته الإنسان الحسن الخلق الذي لو خولط لألف و ألف و إنما يمنعه من المخالطة طلب السلامة من الناس و احتجوا بقوله من شق عصا المسلمين فقد خلع ربقة الإسلام عن عنقه و هذا ضعيف أيضا لأنه مختص بالبغاة و المارقين عن طاعة الإمام فلا يتناول أهل العزلة الذين هم أهل طاعة للأئمة إلا أنهم لا يخالطون الناس و احتجوا بنهيه ص عن هجر الإنسان أخاه فوق ثلاث و هذا ضعيف لأن المراد منه النهي عن الغضب و اللجاج و قطع الكلام و السلام لثوران الغيظ فهذا أمر خارج عن الباب الذي نحن فيه و احتجوا بأن رجلا أتى جبلا يعبد فيه فجاء أهله إلى رسول الله ص فنهاه و قال له إن صبر المسلم في بعض مواطن الجهاد يوما واحدا خير له من عبادة أربعين سنة و هذا ضعيف لأنه إنما كان ذلك في ابتداء الإسلام و الحث على جهاد المشركين و احتجوا بما روي عنه ص أنه قال الشيطان ذئب و الناس كالغنم يأخذ القاصية و الشاذة إياكم و الشعاب و عليكم بالعامة و الجماعة و المساجد و هذا ضعيف لأن المراد به من اعتزل الجماعة و خالفها و احتج من رجح العزلة و آثرها على المخالطة بالآثار الكثيرة الواردة في ذلك نحو قول عمر خذوا بحظكم من العزلة و قول ابن سيرين العزلة عبادة و قول الفضيل كفى بالله محبوبا و بالقرآن مؤنسا و بالموت واعظا اتخذ الله صاحبا و دع الناس جانبا و قال ابن الربيع الزاهد لداود الطائي عظني فقال صم عن الدنيا و اجعل فطرك للآخرة و فر من الناس فرارك من الأسد و قال الحسن كلمات أحفظهن من التوراة قنع ابن آدم فاستغنى و اعتزل الناس فسلم ترك الشهوات فصار حرا ترك الحسد فظهرت مروءته صبر قليلا فتمتع طويلا و قال وهب بن الورد بلغنا أن الحكمة عشرة أجزاء تسعة منها الصمت و العاشر في العزلة عن الناس و قال يوسف بن مسلم لعلي بن بكار ما أصبرك على الوحدة و كان قد لزم البيت فقال كنت و أنا شاب أصبر على أشد من هذا كنت أجالس الناس و لا أكلمهم و قال الثوري هذا وقت السكوت و ملازمة البيوت و قال بعضهم كنت في سفينة و معنا شاب علوي فمكث معنا سبعا لا نسمع له كلاما فقلنا له قد جمعنا الله و إياك منذ سبع و لا نراك تخالطنا و لا تكلمنا فأنشد
- قليل الهم لا ولد يموتو ليس بخائف أمرا يفوت
- قضى وطر الصبا و أفاد علمافغايته التفرد و السكوت
- و أكبر همه مما عليهتناجز من ترى خلق و قوت
قال النخعي لصاحب له تفقه ثم اعتزل و كان مالك بن أنس الفقيه يشهد الجنائز و يعود المرضى و يعطي الإخوان حقوقهم ثم ترك واحدا واحدا من ذلك إلى أن ترك الجميع و قال ليس يتهيأ للإنسان أن يخبر بكل عذر له و قيل لعمر بن عبد العزيز لو تفرغت لنا فقال ذهب الفراغ فلا فراغ إلا عند الله تعالى و قال الفضيل بن عياض إني لأجد للرجل عندي يدا إذا لقيني ألا يسلم علي و إذا مرضت ألا يعودني و قال الداراني بينا ابن خثيم جالس على باب داره إذ جاء حجر فصك وجهه فسجد و جعل يمسح الدم و يقول لقد وعظت يا ربيع ثم قام فدخل الدار فما جلس بعد ذلك على بابه حتى مات و كان سعد بن أبي وقاص و سعيد بن زيد قد لزما بيوتهما بالعقيق فلم يكونا يأتيان المدينة لا لحاجة لهما و لا لغيرهما حتى ماتا بالعقيق قال بشر أقلل من معرفة الناس فإنك لا تدري ما تكون يوم القيامة فإن تكن فضيحة كان من يعرفك أقل و أحضر بعض الأمراء حاتما الأصم فكلمه ثم قال له أ لك حاجة قال نعم ألا تراني و لا أراك و قيل للفضيل إن ابنك يقول لوددت أني في مكان أرى الناس و لا يرونني فبكى الفضيل و قال يا ويح علي أ لا أتمها فقال و لا أراهم و من كلام الفضيل أيضا من سخافة عقل الرجل كثرة معارفه و قد جاء في الأحاديث المرفوعة ذكر العزلة و فضلها نحو قوله ع لعبد الله بن عامر الجهني لما سأله عن طريق النجاة فقال له ليسعك بيتك أمسك عليك دينك و ابك على خطيئتك و قيل له ص أي الناس أفضل فقال رجل معتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه و يدع الناس من شره و قال ع إن الله يحب التقي النقي الخفي
ذكر فوائد العزلة
و في العزلة فوائد منها الفراغ للعبادة و الذكر و الاستئناس بمناجاة الله عن مناجاة الخلق فيتفرغ لاستكشاف أسرار الله تعالى في أمر الدنيا و الآخرة و ملكوت السماوات و الأرض لأن ذلك لا يمكن إلا بفراغ و لا فراغ مع المخالطة و لذلك كان رسول الله ص في ابتداء أمره يتبتل في جبل حراء و يعتزل فيه حتى أتته النبوة و قيل لبعض الحكماء ما الذي أرادوا بالخلوة و العزلة فقال دوام الفكر و ثبات العلوم في قلوبهم ليحيوا حياة طيبة و يموتوا موتا طيبا و قيل لبعضهم ما أصبرك على الوحدة فقال لست وحدي أنا جليس ربي إذا شئت أن يناجيني قرأت كتابه و إذا شئت أن أناجيه صليت و قال سفيان بن عيينة لقيت إبراهيم بن أدهم في بلاد الشام فقلت له يا إبراهيم تركت خراسان فقال ما تهنأت بالعيش إلا هاهنا أفر بديني من شاهق إلى شاهق فمن رآني قال موسوس أو حمال و قيل للحسن يا أبا سعيد هاهنا رجل لم نره قط جالسا إلا وحده خلف سارية فقال الحسن إذا رأيتموه فأخبروني فنظروا إليه ذات يوم فقالوا للحسن و أشاروا إليه فمضى نحوه و قال له يا عبد الله لقد حببت إليك العزلة فما يمنعك من مجالسة الناس قال أمر شغلني عنهم قال فما يمنعك أن تأتي هذا الرجل الذي يقال له الحسن فتجلس إليه قال أمر شغلني عن الناس و عن الحسن قال و ما ذلك الشغل يرحمك الله قال إني أمسي و أصبح بين نعمة و ذنب فأشغل نفسي بشكر الله على نعمه و الاستغفار من الذنب فقال الحسن أنت أفقه عندي يا عبد الله من الحسن فالزم ما أنت عليه و جاء هرم بن حيان إلى أويس فقال له ما حاجتك قال جئت لآنس بك قال ما كنت أعرف أحدا يعرف ربه فيأنس بغيره و قال الفضيل إذا رأيت الليل مقبلا فرحت به و قلت أخلو بربي و إذا رأيت الصبح أدركني استرجعت كراهية لقاء الناس و أن يجي ء إلي من يشغلني عن ربي و قال مالك بن دينار من لم يأنس بمحادثة الله عن محادثة المخلوقين فقد قل علمه و عمي قلبه و ضاع عمره و قال بعض الصالحين بينا أنا أسير في بعض بلاد الشام إذا أنا بعابد خارج من بعض تلك الجبال فلما نظر إلي تنحى إلى أصل شجرة و تستر بها فقلت سبحان الله أ تبخل علي بالنظر إليك فقال يا هذا إني أقمت في هذا الجبل دهرا طويلا أعالج قلبي في الصبر عن الدنيا و أهلها فطال في ذلك تعبي و فني عمري ثم سألت الله تعالى ألا يجعل حظي من أيامي في مجاهدة قلبي فقط فسكنه الله عن الاضطراب و آلفه الوحدة و الانفراد فلما نظرت إليك و تريدني خفت أن أقع في الأمر الأول فأعود إلى ألف المخلوقين فإليك عني فإني أعوذ من شرك برب العارفين و حبيب التائبين ثم صاح وا غماه من طول المكث في الدنيا ثم حول وجهه عني ثم نفض يده و قال إليك عني يا دنيا لغيري فتزيني و أهلك فغري ثم قال سبحان من أذاق العارفين من لذة الخدمة و حلاوة الانقطاع إليه ما ألهى قلوبهم عن ذكر الجنان و الحور الحسان فإني في الخلوة آنس بذكر الله و أستلذ بالانقطاع إلى الله ثم أنشد
- و إني لأستغشي و ما بي نعسةلعل خيالا منك يلقى خياليا
- و أخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك النفس في السر خاليا
و قال بعض العلماء إنما يستوحش الإنسان من نفسه لخلو ذاته عن الفضيلة فيتكثر حينئذ بملاقاة الناس و يطرد الوحشة عن نفسه بهم فإذا كانت ذاته فاضلة طلب الوحدة ليستعين بها على الفكرة و يستخرج العلم و الحكمة و كان يقال الاستئناس بالناس من علامات الإفلاس و منها التخلص بالعزلة عن المعاصي التي يتعرض الإنسان لها غالبا بالمخالطة و هي الغيبة و الرياء و ترك الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و سرقة الطبع بعض الأخلاق الرديئة و الأعمال الخبيثة من الغير أما الغيبة فإن التحرز منها مع مخالطة الناس صعب شديد لا ينجو من ذلك إلا الصديقون فإن عادة أكثر الناس التمضمض بأعراض من يعرفونه و التنقل بلذة ذلك فهي أنسهم الذي يستريحون إليه في الجلوة و المفاوضة فإن خالطتهم و وافقت أثمت و إن سكت كنت شريكا فالمستمع أحد المغتابين و إن أنكرت تركوا ذلك المغتاب و اغتابوك فازدادوا إثما على إثمهم فأما الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فإن من خالط الناس لا يخلو عن مشاهدة المنكرات فإن سكت عصى الله و إن أنكر تعرض بأنواع من الضرر و في العزلة خلاص عن ذلك و في الأمر بالمعروف إثارة للخصام و تحريك لكوامن ما في الصدور و قال الشاعر
- و كم سقت في آثاركم من نصيحةو قد يستفيد الظنة المتنصح
و من تجرد للأمر بالمعروف ندم عليه في الأكثر كجدار مائل يريد الإنسان أن يقيمه وحده فيوشك أن يقع عليه فإذا سقط قال يا ليتني تركته مائلا نعم لو وجد الأعوان حتى يحكم ذلك الحائط و يدعمه استقام و لكنك لا تجد القوم أعوانا على الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فدع الناس و انج بنفسك و أما الرياء فلا شبهة أن من خالط الناس داراهم و من داراهم راءاهم و من راءاهم كان منافقا و أنت تعلم أنك إذا خالطت متعاديين و لم تلق كل واحد منهما بوجه يوافقه صرت بغيضا إليهما جميعا و إن جاملتهما كنت من شرار الناس و صرت ذا وجهين و أقل ما يجب في مخالطة الناس إظهار الشوق و المبالغة فيه و ليس يخلو ذلك عن كذب إما في الأصل و إما في الزيادة بإظهار الشفقة بالسؤال عن الأحوال فقولك كيف أنت و كيف أهلك و أنت في الباطن فارغ القلب عن همومه نفاق محض قال السري السقطي لو دخل علي أخ فسويت لحيتي بيدي لدخوله خشيت أن أكتب في جريدة المنافقين كان الفضيل جالسا وحده في المسجد فجاء إليه أخ له فقال ما جاء بك قال المؤانسة قال هي و الله بالمواحشة أشبه هل تريد إلا أن تتزين لي و أتزين لك و تكذب لي و أكذب لك إما أن تقوم عني و إما أن أقوم عنك و قال بعض العلماء ما أحب الله عبدا إلا أحب ألا يشعر به خلقه و دخل طاوس على هشام بن عبد الملك فقال كيف أنت يا هشام فغضب و قال لم لم تخاطبني بإمرة المؤمنين قال لأن جميع الناس ما اتفقوا على خلافتك فخشيت أن أكون كاذبا فمن أمكنه أن يحترز هذا الاحتراز فليخالط الناس و إلا فليرض بإثبات اسمه في جريدة المنافقين إن خالطهم و لا نجاة من ذلك إلا بالعزلة و أما سرقة الطبع من الغير فالتجربة تشهد بذلك لأن من خالط الأشرار اكتسب من شرهم و كلما طالت صحبة الإنسان لأصحاب الكبائر هانت الكبائر عنده و في المثل فإن القرين بالمقارن يقتدي و منها الخلاص من الفتن و الحروب بين الملوك و الأمراء على الدنيا روى أبو سعيد الخدري عن النبي ص أنه قال يوشك أن يكون خير مال المسلم غنيمات يتبع بها شعاف الجبال و مواضع القطر يفر بدينه من الفتن و روى عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله ص ذكر الفتن فقال إذا رأيت الناس قد مرجت عهودهم و خفت أمانتهم و كانوا هكذا و شبك بأصابعه فقلت ما تأمرني فقال الزم بيتك و املك عليك لسانك و خذ ما تعرف و دع ما تنكر و عليك بأمر الخاصة و دع عنك أمر العامة و روى ابن مسعود عنه ص أنه قال سيأتي على الناس زمان لا يسلم لذي دين دينه إلا من فر من قرية إلى قرية و من شاهق إلى شاهق كالثعلب الرواغ قيل و متى ذلك يا رسول الله قال إذا لم تنل المعيشة إلا بمعاصي الله سبحانه فإذا كان ذلك الزمان كان هلاك الرجل على يد أبويه فإن لم يكن له أبوان فعلى يد زوجته و ولده و إن لم يكن فعلى يد قرابته قالوا كيف ذلك يا رسول الله قال يعيرونه بالفقر و ضيق اليد فيكلفونه ما لا يطيقه حتى يورده ذلك موارد الهلكة و روى ابن مسعود أيضا أنه ص ذكر الفتنة فقال الهرج فقلت و ما الهرج يا رسول الله قال حين لا يأمن المرء جليسه قلت فبم تأمرني يا رسول الله إن أدركت ذلك الزمان قال كف نفسك و يدك و ادخل دارك قلت أ رأيت إن دخل علي داري قال ادخل بيتك قلت إن دخل علي البيت قال ادخل مسجدك و اصنع هكذا و قبض على الكوع و قل ربي الله حتى تموت و منها الخلاص من شر الناس فإنهم يؤذونك تارة بالغيبة و تارة بسوء الظن و التهمة و تارة بالاقتراحات و الأطماع الكاذبة التي يعسر الوفاء بها و تارة بالنميمة و الكذب مما يرونه منك من الأعمال و الأقوال مما لا تبلغ عقولهم كنهه فيدخرون ذلك في نفوسهم عدة لوقت ينتهزون فيه فرصة الشر و من يعتزلهم يستغن عن التحفظ لذلك و قال بعض الحكماء لصاحبه أعلمك شعرا هو خير لك من عشرة آلاف درهم و هو
- اخفض الصوت إن نطقت بليلو التفت بالنار قبل المقال
- ليس للقول رجعة حين يبدوبقبيح يكون أو بجمال
و من خالط الناس لا ينفك من حاسد و طاعن و من جرب ذلك عرف و من الكلام المأثور عن علي ع اخبر تقله قال الشاعر
- من حمد الناس و لم يبلهمثم بلاهم ذم من يحمد
- و صار بالوحدة مستأنسايوحشه الأقرب و الأبعد
و قيل لسعد بن أبي وقاص أ لا تأتي المدينة قال ما بقي فيها إلا حاسد نعمة أو فرح بنقمة و قال ابن السماك كتب إلينا صاحب لنا أما بعد فإن الناس كانوا دواء يتداوى به فصاروا داء لا دواء لهم ففر منهم فرارك من الأسد و كان بعض الأعراب يلازم شجرة و يقول هذه نديمي و هو نديم فيه ثلاث خصال إن سمع لم ينم علي و إن تفلت في وجهه احتمل و إن عربدت عليه لم يغضب فسمع الرشيد هذا الخبر فقال قد زهدني سماعه في الندماء و كان بعضهم يلازم الدفاتر و المقابر فقيل له في ذلك قال لم أر أسلم من الوحدة و لا أوعظ من قبر و لا أمتع من دفتر و قال الحسن مرة إني أريد الحج فجاء إلي ثابت البناني و قال بلغني أنك تريد الحج فأحببت أن نصطحب فقال الحسن دعنا نتعاشر بستر الله إني أخاف أن نصطحب فيرى بعضنا من بعض ما نتماقت عليه و قال بعض الصالحين كان الناس ورقا لا شوك فيه فالناس اليوم شوك لا ورق فيه و قال سفيان بن عيينة قال لي سفيان الثوري في اليقظة في حياته و في المنام بعد وفاته أقلل معرفة الناس فإن التخلص منهم شديد و لا أحسبني رأيت ما أكره إلا ممن عرفت و قال بعضهم جئت إلى مالك بن دينار و هو قاعد وحده و عنده كلب رابض قريبا منه فذهبت أطرده فقال دعه فإنه لا يضر و لا يؤذي و هو خير من الجليس السوء و قال أبو الدرداء اتقوا الله و احذروا الناس فإنهم ما ركبوا ظهر بعير إلا أدبروه و لا ظهر جواد إلا عقروه و لا قلب مؤمن إلا أخربوه و قال بعضهم أقلل المعارف فإنه أسلم لدينك و قلبك و أخف لظهرك و أدعى إلى سقوط الحقوق عنك لأنه كلما كثرت المعارف كثرت الحقوق و عسر القيام بالجميع و قال بعضهم إذا أردت النجاة فأنكر من تعرف و لا تتعرف إلى من لا تعرف و منها أن في العزلة بقاء الستر على المروءة و الخلق و الفقر و سائر العورات و قد مدح الله تعالى المستترين فقال يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ و قال الشاعر
- و لا عار أن زالت عن الحر نعمةو لكن عارا أن يزول التجمل
و ليس يخلو الإنسان في دينه و دنياه و أفعاله عن عورات يتقين و يجب سترها و لا تبقى السلامة مع انكشافها و لا سبيل إلى ذلك إلا بترك المخالطة و منها أن ينقطع طمع الناس عنك و ينقطع طمعك عن الناس أما انقطاع طمع الناس عنك ففيه نفع عظيم فإن رضا الخلق غاية لا تدرك لأن أهون حقوق الناس و أيسرها حضور الجنازة و عيادة المريض و حضور الولائم و الإملاكات و في ذلك تضييع الأوقات و التعرض للآفات ثم يعوق عن بعضها العوائق و تستثقل فيها المعاذير و لا يمكن إظهار كل الأعذار فيقول لك قائل إنك قمت بحق فلان و قصرت في حقي و يصير ذلك سبب عداوة فقد قيل إن من لم يعد مريضا في وقت العيادة يشتهي موته خيفة من تخجيله إياه إذا برأ من تقصيره فأما من يعم الناس كلهم بالحرمان فإنهم يرضون كلهم عنه و متى خصص وقع الاستيحاش و العتاب و تعميمهم بالقيام بجميع الحقوق مما لا قدرة عليه للمتجرد ليله و نهاره فكيف من له مهم يشغله ديني أو دنيوي و من كلام بعضهم كثرة الأصدقاء زيادة الغرماء و قال الشاعر
- عدوك من صديقك مستفادفلا تستكثرن من الصحاب
- فإن الداء أكثر ما تراه يكون من الطعام أو الشراب
و أما انقطاع طمعك عنهم ففيه أيضا فائدة جزيلة فإن من نظر إلى زهرة الدنيا و زخرفها تحرك حرصه و انبعث بقوة الحرص طمعه و أكثر الأطماع يتعقبها الخيبة فيتأذى الإنسان بذلك و إذا اعتزل لم يشاهد و إذا لم يشاهد لم يشته و لم يطمع و لذلك قال الله تعالى لنبيه ص وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا و قال ع انظروا إلى من دونكم و لا تنظروا إلى من هو فوقكم فإنه أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم و قال عون بن عبد الله كنت أجالس الأغنياء فلا أزال مغموما أرى ثوبا أحسن من ثوبي و دابة أفره من دابتي فجالست الفقراء فاسترحت و خرج المزني صاحب الشافعي من باب جامع الفسطاط بمصر و كان فقيرا مقلا فصادف ابن عبد الحكم قد أقبل في موكبه فبهره ما رأى من حاله و حسن هيأته فتلا قوله تعالى وَ جَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَ تَصْبِرُونَ ثم قال نعم أصبر و أرضى فالمعتزل عن الناس في بيته لا يبتلى بمثل هذه الفتن فإن من شاهد زينة الدنيا إما أن يقوى دينه و يقينه فيصبر فيحتاج إلى أن يتجرع مرارة الصبر و هو أمر من الصبر أو تنبعث رغبته فيحتال في طلب الدنيا فيهلك دنيا و آخرة أما في الدنيا فبالطمع الذي في أكثر الأوقات يتضمن الذل المعجل و أما في الآخرة فلإيثاره متاع الدنيا على ذكر الله و التقرب إليه و لذلك قال الشاعر
- إذا كان باب الذل من جانب الغنىسموت إلى العلياء من جانب الفقر
أشار إلى أن الطمع يوجب في الحال ذلا و منها الخلاص من مشاهدة الثقلاء و الحمقى و معاناة أخلاقهم فإن رؤية الثقيل هي العمى الأصغر قيل للأعمش بم عمشت عيناك قال بالنظر إلى الثقلاء و دخل على أبي حنيفة رحمه الله فقال له روينا في الخبر أن من سلب كريمتيه عوضه الله ما هو خير منهما فما الذي عوضك قال كفاني رؤية ثقيل مثلك يمازحه و قال الشافعي رحمه الله ما جالست ثقيلا إلا وجدت الجانب الذي يليه من بدني كأنه أثقل علي من الجانب الآخر و هذه المقاصد و إن كان بعضها دنيويا إلا أنها تضرب في الدين بنصيب و ذلك لأن من تأذى برؤية ثقيل لم يلبث أن يغتابه و يثلبه و ذلك فساد في الدين و في العزلة السلامة عن جميع ذلك و اعلم أن كلام أمير المؤمنين ع تختلف مناهجه فقد رجح العزلة في هذا الفصل على المخالطة و نهى عن العزلة في موضع آخر سيأتي ذكره في الفصل الذي أوله أنه دخل على العلاء بن زياد الحارثي عائدا و يجب أن يحمل ذلك على أن من الناس من العزلة خير له من المخالطة و منهم من هو بالضد من ذلك و قد قال الشافعي قريبا من ذلك قال ليونس بن عبد الأعلى صاحبه يا يونس الانقباض عن الناس مكسبة للعداوة و الانبساط إليهم مجلبة لقرناء السوء فكن بين المنقبض و المنبسط فإذا أردت العزلة فينبغي للمعتزل أن ينوي بعزلته كف شره عن الناس أولا ثم طلب السلامة من شر الأشرار ثانيا ثم الخلاص من آفة القصور عن القيام بحقوق المسلمين ثالثا ثم التجرد بكنه الهمة بعبادة الله تعالى رابعا فهذه آداب نيته ثم ليكن في خلوته مواظبا على العلم و العمل و الذكر و الفكر ليجتني ثمرة العزلة و يجب أن يمنع الناس عن أن يكثروا غشيانه و زيارته فيتشوش وقته و أن يكف نفسه عن السؤال عن أخبارهم و أحوالهم و عن الإصغاء إلى أراجيف الناس و ما الناس مشغولون به فإن كل ذلك ينغرس في القلب حتى ينبعث على الخاطر و البال وقت الصلاة و وقت الحاجة إلى إحضار القلب فإن وقوع الأخبار في السمع كوقوع البذر في الأرض لا بد أن ينبت و تتفرع عروقه و أغصانه و إحدى مهمات المعتزل قطع الوساوس الصارفة عن ذكر الله و لا ريب أن الأخبار ينابيع الوساوس و أصولها و يجب أن يقنع باليسير من المعيشة و إلا اضطره التوسع إلى الناس و احتاج إلى مخالطتهم و ليكن صبورا على ما يلقاه من أذى الجيران إذ يسد سمعه عن الإصغاء إلى ما يقول فيه من أثنى عليه بالعزلة و قدح فيه بترك المخالطة فإن ذلك لا بد أن يؤثر في القلب و لو مدة يسيرة و حال اشتغال القلب به لا بد أن يكون واقفا عن سيره في طريق الآخرة فإن السير فيها إما يكون بالمواظبة على ورد أو ذكر مع حضور قلب و إما بالفكر في جلال الله و صفاته و أفعاله و ملكوت سماواته و إما بالتأمل في دقائق الأعمال و مفسدات القلب و طلب طرق التخلص منها و كل ذلك يستدعي الفراغ و لا ريب أن الإصغاء إلى ما ذكرناه يشوش القلب و يجب أن يكون للمعتزل أهل صالح أو جليس صالح لتستريح نفسه إليه ساعة عن كد المواظبة ففي ذلك عون له على بقية الساعات و ليس يتم للإنسان الصبر على العزلة إلا بقطع الطمع عن الدنيا و ما الناس منهمكون فيه و لا ينقطع طمعه إلا بقصر الأمل و ألا يقدر لنفسه عمرا طويلا بل يصبح على أنه لا يمسي و يمسي على أنه لا يصبح فيسهل عليه صبر يوم و لا يسهل عليه العزم على صبر عشرين سنة لو قدر تراخي أجله و ليكن كثير الذكر للموت و وحدة القبر مهما ضاق قلبه من الوحدة و ليتحقق أن من لم يحصل في قلبه من ذكر الله و معرفته ما يأنس به فإنه لا يطيق وحشة الوحدة بعد الموت و أن من أنس بذكر الله و معرفته فإن الموت لا يزيل أنسه لأن الموت ليس يهدم محل الأنس و المعرفة بل يبقى حيا بمعرفته و أنسه فرحا بفضل الله عليه قال سبحانه وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ و كل من يجرد نفسه في ذات الله فهو شهيد مهما أدركه الموت فالمجاهد من جاهد نفسه و هواه كما صرح به ع و قال لأصحابه رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر فالجهاد الأصغر محاربة المشركين و الجهاد الأكبر جهاد النفس و هذا الفصل في العزلة نقلناه على طوله من كلام أبي حامد الغزالي في إحياء علوم الدين و هذبنا منه ما اقتضت الحال تهذيبه
|