و الهجرة قائمة على حدّها الأوّل، ما كان للّه في أهل الأرض حاجة من مستسرّ الامّة و معلنها، لا يقع اسم الهجرة على أحد إلّا بمعرفة الحجّة في الأرض، فمن عرفها و أقرّ بها فهو مهاجر، و لا يقع اسم الاستضعاف على من بلغته الحجّة فسمعتها أذنه، و وعاها قلبه
اللغة
(مستسرّ الامّة و معلنها) بصيغة الفاعل يقال استسرّ القمر و خفى و السرّ ما يكتم، و أسررت الحديث إسرارا أخفيته و هو خلاف الاعلان
الاعراب
قوله: ما كان للّه اه، قال القطب الراوندي في محكىّ كلامه: ما ههنا نافية من في قوله: من مستسرّ الامة، لبيان الجنس أى لم يكن للّه في أهل الأرض ممّن أسرّ دينه أو أعلنه حاجة. و قال الشارح المعتزلي: إنّها ظرفيّة و من زايدة و لا حاجة لها إلى المتعلّق قال: فلو حذفت لجرّ المستسرّ بدلا من أهل الأرض، و من إذا كانت زايدة لا تتعلّق نحو ما جائنى من أحد انتهى.
المعنى
و لما قسّم الايمان على قسمين و كان القسم الأوّل هو المطلوب، و كانت مطلوبيّته من البديهيات الأوّليّة غنيّة عن البيان، لا جرم طوى عنه و أتى ما هو أحرى بالبيان و أهمّ بالتنبيه عليه، و هو الطريق الموصل إلى وصف الايمان فقال: (و الهجرة قائمة على حدّها الأوّل) لم تتغيّر و لم تتبدّل أى من أراد الفوز بالايمان و الوصول إلى معارج اليقين فليهاجر إلى أئمّة الدّين، لأنّ الهجرة قائمة على حدّها الأوّل الذي كان في بدء البعثة إذ الغرض الأصلي في ذلك الزّمان لم يكن إلّا الوصول إلى حضور حجّة اللّه و رسوله و تحصيل الايمان و المعرفة و معالم الشرع معه، و هذا الغرض موجود الان و يحصل بالوصول إلى حضور الأئمة لكونهم حجج اللّه على عباده و خلفائه في بلاده و قائمين مقام الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فالهجرة إليهم هجرة إليه.
و يشهد به ما رواه في الصّافي عن العيّاشي عن محمّد بن أبي عمير قال: وجّه زرارة بن أعين ابنه عبيدا إلى المدينة يستخبر له خبر أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السّلام و عبد اللّه، فمات قبل أن يرجع إليه عبيد، قال محمّد بن أبي عمير: حدثني محمد بن حكيم قال ذكرت لأبي الحسن زرارة و توجيهه عبيدا إلى المدينة، فقال عليه السّلام: إنّي لأرجو أن يكون زرارة ممّن قال اللّه تعالى «وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ».
و في الوسائل من معاني الأخبار عن حذيفة بن منصور قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: المتعرّب بعد الهجرة التارك لهذا الأمر بعد معرفته، هذا و لما ذكر قيام الهجرة و بقائها على حدّها الأوّل تنبيها بذلك على مطلوبيّتها و وجوبها أردفه بقوله (ما كان للّه في أهل الأرض حاجة من مستسرّ الامة و معلنها) إشارة إلى أنّ مطلوبيّتها ليس لأجل حاجة و افتقار منه إلى المهاجرين و غيرهم من أهل الأرض مضمرين لما قصدوه بالهجرة أو مظهرين له.
و بعبارة اخرى انّه سبحانه طلب الهجرة من المهاجرين لا لأجل حاجة منه في هجرتهم و غرض عايدة إليه تعالى من جلب منفعة أو دفع مضرّة أو طلب ثناء و محمدة، بل هو الغنيّ المطلق المتعالى عن الفاقة و الافتقار، و إنّما حثّهم على الهجرة و على الايمان المتحصّل بالهجرة و ساير التكاليف الشرعيّة المتفرّعة عليه لأجل ايصال النفع إلى العباد و إنجائهم من العقوبة يوم المعاد.
فهذه الجملة أعني قوله: ما كان للّه اه، بمنزلة الاستيناف البياني فانّ قوله: و الهجرة قائمة اه، لما كان دالا بدلالة التنبيه و الاشارة على مطلوبيّة الهجرة، و ربما يسبق منه إلى الأوهام القاصرة أنّ مطلوبيّتها لأجل حاجة إليها منه سبحانه أتا بهذه الجملة دفعا لذلك التوهّم.
فقد ظهر بما ذكرناه ضعف ما قاله الشّارح المعتزلي من أنّ معناه ما دام للّه في أهل الأرض المستسرّ منهم باعتقاده و المعلن حاجة أى ما دام التكليف باقيا زعما منه أنّ جعل ما نافية موجب لادخال كلام منقطع بين كلامين يتّصل أحدهما بالاخر وجه الضعف منع استلزام كونها نافية، لانقطاع هذه الجملة عما قبلها إذ قد ظهر بما ذكرناه اتّصالها و حسن ارتباطها به كما لا يخفى.
مضافا إلى أنّ وصف اللّه سبحانه بالحاجة على إبقائها على حقيقتها باطل، و على تأويلها بالمعنى المجازي كما أوّلها الشارح البحراني حيث جعل لفظ الحاجة مستعارا في حقه تعالى باعتبار طلبه للعبادة بالأوامر و غيرها كطلب ذى الحاجة لها ممّا يشمئزّ منه الطباع و يأبى عنه الذوق السليم كما لا يخفى.
و بالجملة فهذه الجملة معترضة بين الجملتين، و الغرض من الاعتراض تنزيه اللّه سبحانه من الحاجة و الافتقار إلى عبادة أهل الأرض، فهي نظير الجملة المعترضة في قوله سبحانه «وَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَ لَهُمْ ما يَشْتَهُونَ» فانّ قوله: سبحانه جملة لكونه بتقدير الفعل وقعت في أثناء الكلام، لأنّ قوله: و لهم ما يشتهون، عطف على قوله: للّه البنات، و النكتة فيه تنزيه اللّه و تقديسه عما ينسبونه إليه.
و كيف كان فلما ذكر قيام الهجرة على حدّها الأوّل أوضحه و شرحه بقوله (لا يقع اسم الهجرة على أحد إلّا بمعرفة الحجّة في الأرض فمن عرفها و أقرّ بها فهو مهاجر) يعني أنّه لا يستحق أحد لاطلاق اسم المهاجر عليه و بوصفه بالهجرة إلّا بمعرفة حجّة اللّه في أرضه و الايمان به، و هذا الحجّة هو النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في زمانه و الأئمة المعصومون القائمون مقامه بعده.
و ذلك لما ذكرناه من أنّ الغرض الأصلي من الهجرة هو الوصول إلى حضور الحجة و تحصيل الايمان و المعرفة و معالم الشريعة منه لا مجرّد ترك الأوطان و الهجرة من البلدان و المسير من مكان إلى مكان، فالمهاجر في الحقيقة هو الضارب في الأرض لمعرفة إمام زمانه و الايمان به.
و يؤمى إلى ذلك ما رواه في الصافي عن عليّ بن إبراهيم القمّي (ره) في قوله «و السّابقون الأولون من المهاجرين و الأنصار» قال: هم النقباء و أبو ذر و المقداد و سلمان و عمّار و من آمن و صدّق و ثبت على ولاية أمير المؤمنين عليه السّلام و يدل عليه ما رواه في الكافي عن عليّ بن إبراهيم عن محمّد بن عيسى عن يونس ابن عبد الرحمن قال: حدّثنا حمّاد عن عبد الأعلى قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول العامة إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: من مات و ليس له إمام مات ميتة جاهلية، فقال عليه السّلام: الحق و اللّه قلت: فانّ إماما هلك و رجل بخراسان لا يعلم من وصيّه لم يسعه ذلك قال: لا يسعه إنّ الامام إذا هلك وقعت حجة وصيّه على من هو معه في البلد و حقّ النفر على من ليس بحضرته إذا بلغهم إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول «وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا» قلت: فنفر قوم فهلك بعضهم قبل أن يصل فيعلم، قال: إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول «وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ».
بل لا يبعد أن يقال إنّ من عرف امام زمانه و اتبعه و آمن به فيصح أن يسمّى باسم المهاجر من دون حاجة الى المسافرة، و بعبارة اخرى مجرّد المعرفة و الاتباع كاف في صحّة التسمية كما يفصح عنه قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: فمن عرفها و أقرّبها فهو مهاجر.
و صحّة إطلاقه عليه ذلك إما باعتبار اشتراكه مع المهاجر المسافر في الغاية المقصودة و ان افترقا بالمسافرة و عدم المسافرة، أو باعتبار كونه مهاجرا بسبب معرفته من الضلالة إلى الهدى كما أنّ المهاجر الاصطلاحى مهاجر من بلد إلى بلد آخر.
و على هذا فيكون قوله (و لا يقع اسم الاستضعاف على من بلغته الحجّة فسمعها اذنه و وعاها قبله) توكيدا لما فهم من الجملة السابقة، فانه لما كان مدلولها المطابقي على الاحتمال الأخير أنّ العارف بامام زمانه مهاجر و حقيق بأن يوصف بالمهاجريّة من دون حاجة إلى السّفر أتا بهذا الكلام توضيحا لمدلولها الالتزامي.
فيكون محصل مراده حينئذ أنّ من بلغته حجيّة الحجة فسمعها باذنه و حفظها بقلبه أى عرفها حقّ المعرفة و لو في وطنه و مع عدم تجشّم السفر فهو ليس بمستضعف بل مهاجر، و لا يجوز عدّ مثل هذا الشخص في عداد المستضعفين المستحقين للذّم و العقاب بترك المهاجرة و المسافرة المشار إليهم في قوله سبحانه «إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ ساءَتْ مَصِيراً» فانّ هذه الاية كما قيل نزلت في أناس من أهل مكّة أسلموا و لم يهاجروا حين كانت الهجرة واجبة في بدو الاسلام، فانّ المفروض عليهم يومئذ هو المهاجرة بالأبدان و على من بعدهم هو المعرفة و الايمان من دون لزوم الهجرة بالبدن هذا.
و لكنّ الأظهر أنّ المراد بهذه الجملة أنّ من بلغته خبر الحجّة فسمعه و وعاه بقلبه أى علم علما قطعيا بوجود الحجّة فلا يقع عليه اسم الاستضعاف أى لا يسوغ له التقصير في الايمان به و الاعتذار بكونه مستضعفا فلو قصر و فرط دخل في زمرة المستضعفين المذكورين في الاية السابقة الّذين لم يكونوا مستضعفين في الحقيقة، و لذلك استحقوا التقريع و العقوبة فالمقصّر المفرط يكون مثلهم في استحقاق السّخط.
و يشهد بذلك ما رواه في الصافى من الكافى عن الصادق عليه السّلام أنه سئل ما تقول فى المستضعفين فقال شبيها بالفزع فتركتم أحدا يكون مستضعفا و أين المستضعفون فو اللّه لقد مشى بأمركم هذا العواتق فى خدورهن و تحدّثت به السقاءات في طرق المدينة.
و عن الكاظم عليه السّلام أنّه سئل عن الضعفاء فكتب عليه السّلام: الضعيف من لم ترفع له حجّة و لم يعرف الاختلاف فاذا عرف الاختلاف فليس بضعيف.
و يؤيّده ما فيه عن عليّ بن إبراهيم في الاية المتقدّمة«» أنها نزلت فيمن اعتزل أمير المؤمنين عليه السّلام و لم يقاتلوا معه، فقالت الملائكة لهم عند الموت فيم كنتم، قالوا: كنّا مستضعفين في الأرض أى لم نعلم مع من الحقّ فقال اللّه تعالى: أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها أى دين اللّه و كتاب اللّه واسع فتنظروا فيه.
و وجه التأييد غير خفىّ على المتدبّر فتدبّر، هذا.
|