لا يسعني إلا قتالهم:
فتداكّوا عليّ تداكّ الإبل الهيم يوم و ردها و قد أرسلها راعيها و خلعت مثانيها حتّى ظننت أنّهم قاتليّ أو بعضهم قاتل بعض لديّ. و قد قلّبت هذا الأمر بطنه و ظهره حتّى منعني النّوم. فما وجدتني يسعني إلّا قتالهم أو الجحود بما جاءني به محمّد صلّى اللّه عليه و آله، فكانت معالجة القتال أهون عليّ من معالجة العقاب. و موتات الدّنيا أهون عليّ من موتات الآخرة.
اللغة:
تداكوا: تزاحموا. و الإبل الهيم: العطاش. و مثاني: جمع مثناة، و هي ما يعقل به البعير.
الإعراب:
يوم وردها متعلق بمحذوف حالا من الإبل، و يجوز أن يتعلق بتداكّ على معنى متداكة، أو بعضهم بالنصب عطفا على اسم ان، و بطنه و ظهره بدل اشتمال من الأمر، و النوم منصوب بنزع الخافض أي من النوم، و الياء في وجدتني مفعول أول، و جملة يسعني مفعول ثان.
للمنبر حول البيعة للإمام:
كان علماء المسلمين و ما زالوا يقيسون جواز العمل بالحديث، أو عدم جوازه بشهادة المطلعين على أحوال الراوي في عصره، فإن شهدوا بصدقه و تثبته في النقل أخذوا به و اعتمدوا عليه، و إلا أهملوه سواء أ كان الراوي مجهولا، أم معروفا بالكذب.. ثم ظهرت نظرية جديدة عند غيرنا نحن الشرقيين تقول: ان صحة النقل لا تقاس بما قيل في حق الراوي فقط، بل لا بد أيضا أن ندرس و نعرف ميوله و أهدافه، هل كان من قصده أن يبين للناس مكانته عند من ينقل عنه و قربه منه، و انه كان يخصه بالحديث أكثر من غيره و هل كان يهدف من النقل تأييد جهة خاصة، و سياسة معينة. و بكلمة: هل كان بنقله يجر النار الى قرصه. فإن كان شي ء من هذا فنقله ليس بحجة و ان شهد بحقه العشرات، و مثله قول الفقهاء في باب الشهادات: لا تقبل شهادة من تجلب له نفعا، أو تدفع عنه ضرا.
و أيضا كان علماء المسلمين و ما زالوا يستدلون في كتب الفضائل و المناقب على عظمة من يعظّمون و يقدسون، بستدلون بما نزل فيه من الآيات، و جاء من الروايات، ثم ظهرت نظرية جديدة تقول: ان العظيم هو الذي يعيش للناس لا لنفسه، و يهتم بمطالبهم، و يمثل أمانيهم، و يعمل من أجلهم، لا ما قيل عنه و يقال.. أجل، ان في الآيات و الروايات انعكاسا لأعمال العظيم و جهاده، و لكن لا بد قبل كل شي ء من بيان السبب الأول و المباشر لعظمة العظيم، و انه أمل الملايين، و انه من أجل هذا نزل فيه ما نزل، و جاء ما جاء.
و كان الملايين في عهد الإمام الذين لا حياة لهم و لا كرامة إلا في ظل الاخاء و العدالة، كانوا يرون انه (ع) هو الذي يحقق لهم هذه الأمنية، و يساوي بينهم و بين المترفين و الطامحين، قال الأستاذ أحمد عباس صالح في مجلة «الكاتب» المصرية عدد آذار سنة 1965: «كان علي في نظر غالبية المسلمين الرجل الوحيد الأقرب الى روح الإسلام و أصوله الصحيحة». و إذن فلا بدع إذا أسرعوا اليه و تسابقوا الى بيعته حين سنحت لهم الفرصة، و قد وصف الإمام (ع) اندفاعهم و تسابقهم بقوله: (فتداكوا علي تداك الإبل الهيم يوم وردها). و لما ذا أسرع أغلبية المسلمين الى الإمام، و تزاحموا عليه تزاحم الإبل العطاش على الماء ليبايعوه بالخلافة حتى ظن انهم قاتليه أو بعضهم قاتل بعض ألأنه عالم تقي، و شجاع قوي، أو لأنه ابن عم الرسول و زوج البتول كلا، لا هذا و لا ذاك، بل لأنه لهم و لدينهم و دنياهم، و ان الذليل عنده عزيز حتى يأخذ الحق له، و القوي عنده ضعيف حتى يأخذ الحق منه، و ان الناس في إيمانه و عقيدته كلهم عيال اللّه، و ان المال مال اللّه يوزع بالسوية بين عياله. و أشرنا فيما تقدم الى قوله (ع): ان آدم لم يلد عبدا و لا أمة. و في ذات يوم جاءته امرأتان تشكوان فقرهما، فأعطاهما، و لكن احداهما سألته أن يزيدها و يفضلها على صاحبتها، لأنها هي عربية، و صاحبتها من الموالي، فأخذ قبضة من تراب، و نظر فيه و قال: لا أعلم ان اللّه فضل أحدا من الناس على أحد إلا بالطاعة و التقوى.
و قد ينخدع الناس من غير وعي بمداج لا سابقة و لا منقبة له على الاطلاق سوى أنه يتكلم بإصلاح المجتمع، و يتستر وراء هذا الشعار، أما إيمان الملايين بمن سبقت له الحسنى في جميع مواقفه منذ يومه الأول و الى آخر يوم، و آثر حياة البساطة مع ضعفة الناس، و رفض كل امتياز عنهم كالإمام (ع) أما ايمان الملايين هذا فيستحيل أن يكون وهما و جهلا.. انه ايمان الوعي و العلم بالحق و أهله.
(و قلبت هذا الأمر بطنه و ظهره الى محمد (ص) ) تقدم مثله مع الشرح في الخطبة 43 (فكانت معالجة القتال أهون عليّ من معالجة العقاب).
يريد انه لو ترك قتال الناكثين و المارقين و القاسطين لكان مسؤولا أمام اللّه و معاقبا بعذابه على الترك، و ليس من شك ان القتال شر، و لكن المسئول هو من أثار الشر و فتح بابه. و ما ذا يصنع الإمام و غير الإمام اذا لم يجد وسيلة للقضاء على العنف إلا العنف. قال تعالى: فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ 191 البقرة. و قال: وَ قاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ 39 الأنفال. و في آية ثانية من هذه السورة «إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَ فَسادٌ كَبِيرٌ». و قال: «الْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ». (و موتات الدنيا أهون عليّ من موتات الآخرة).
أي ان آلام الدنيا مهما قست فهي أيسر بكثير من آلام جهنم و عذابها. و من البداهة ان الضرر الأشد يدفع بالضرر الأخف.
|