و اعلموا أنّ هذا القرآن هو النّاصح الّذي لا يغشّ، و الهادي الّذي لا يضلّ، و المحدّث الّذي لا يكذب، و ما جالس هذا القرآن أحد إلّا قام عنه بزيادة أو نقصان، زيادة في هدى، و نقصان من عمى. و اعلموا أنّه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة، و لا لأحد قبل القرآن من غنى، فاستشفوه من أدوائكم، و استعينوا به على لاوائكم، فإنّ فيه شفاء من أكبر الدّاء و هو الكفر و النّفاق و الغيّ و الضّلال، فاسئلوا اللّه به، و توجّهوا إليه بحبّه، و لا تسئلوا به خلقه، إنّه ما توجّه العباد بمثله إلى اللّه. و اعلموا أنه شافع مشفّع، و قائل مصدّق، و أنّه من شفع له يوم القيمة شفّع فيه، و من محل به القرآن يوم القيمة صدّق عليه، فإنّه ينادي مناد يوم القيمة: ألا و إنّ كلّ حارث مبتلى في حرثه و عاقبة عمله، غير حرثة القرآن فكونوا من حرثته و أتباعه، و استدلّوه على ربّكم، و استنصحوه على أنفسكم، و اتّهموا عليه آرائكم، و استغشّوا فيه أهواءكم.
اللغة
(غشّه) يغشّه كمدّ يمدّ غشّا خلاف نصحه و (اللّأواء) و زان صحراء الشدّة و ضيق المعيشة و في مجمع البحرين في الحديث و من (محل به) القرآن يوم القيامة صدق أى سعى به يقال محل بفلان اذا قال عليه قولا يوقعه في مكروه
الاعراب
أو في قوله بزيادة أو نقصان بمعنى الواو كما في قوله: لنفسي تقاها أو عليها فجورها. و يؤيّده قوله زيادة في هدى، و نقصان بالواو، أو أنّ الترديد لمنع الخلوّ و الفاء في قوله: فاستشفوه فصيحة، و في قوله: فانّ فيه شفاء للتعليل
المعنى
ثمّ شرع في ذكر فضل القرآن و بيان ممادحه ترغيبا في الاهتداء به و الاقتباس من ضياء أنواره فقال عليه السّلام (و اعلموا أنّ هذا القرآن هو الناصح) المشفق (الّذي لا يغشّ) في إرشاده إلى وجوه المصالح كما أنّ الناصح الصديق شأنه ذلك (و الهادى الّذي لا يضلّ) من اهتدى به.
روى في الكافي عن طلحة بن زيد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ هذا القرآن فيه منار الهدى و مصابيح الدّجى، فليجل جال بصره و يفتح للضياء نظره، فانّ التفكّر حياة قلب البصير كما يمشي المستنير في الظّلمات بالنور.
(و المحدّث الّذي لا يكذب) في قصصه و أحاديثه و أخباره قال أبو عبد اللّه عليه السّلام فيما روى في الكافي عن سماعة بن مهران عنه عليه السّلام انّ العزيز الجبّار أنزل عليكم كتابه و هو الصّادق البارّ فيه خبركم و خبر من قبلكم و خبر من بعدكم و خبر السماء و الأرض و لو أتاكم من يخبركم لذلك تعجّبتم.
(و ما جالس هذا القرآن أحد) استعار لفظ المجالسة لمصاحبته و ملازمته و قراءته و التدبّر في ألفاظه و معانيه (إلّا قام عنه) استعار لفظ القيام لترك قراءته و الفراغ عنها و لا يخفى ما في مقابلة الجلوس بالقيام من اللّطف و الحسن فانّ المقابلة بين الفعلين في معنييهما الحقيقين و المجازين كليهما على حدّ قوله تعالى: أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ أى ضالا فهديناه، فانّ الموت و الأحياء متقابلان كتقابل الضلالة و الهداية و ما ذكرناه أظهر و أولى مما قاله الشارح البحراني من أنه كنّى بمجالسة القرآن عن مجالسة حملته و قرائه لاستماعه منهم و تدبّره عنهم، لاحتياجه إلى الحذف و التكلّف الّذي لا حاجة إليه.
و كيف كان فالمراد أنّ من قام عن القرآن بعد قضاء وطره منه فانما يقوم (بزيادة أو نقصان زيادة في هدى و نقصان من عمى) اذ فيه من الايات البيّنات و البراهين الباهرات ما يزيد في بصيرة المستبصر، و ينقص من جهالة الجاهل.
(و اعلموا أنه ليس لأحد بعد القرآن من) فقر و (فاقة و لا لأحد قبل القرآن من غنى) و ثروة الظاهر أنّ المراد به أنّ من قرء القرآن و عرف ما فيه و تدبّر في معانيه و عمل بأحكامه يتمّ له الحكمة النظريّة و العمليّة و لا يبقى له بعده إلى شي ء حاجة و لا فقر و لا فاقة و من لم يكن كذلك فهو أحوج المحتاجين.
روى في الكافي عن معاوية بن عمار قال: قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام من قرء القرآن فهو عنيّ و لا فقر بعده و إلّا ما به غني.
قال الشاحر البحراني في شرح ذلك: نبّههم على أنّه ليس بعده على أحد فقر أى ليس بعد نزوله للنّاس و بيانه الواضح حاجة بالنّاس إلى بيان حكم في إصلاح معاشهم و معادهم، و لا لأحد قبله من غني أى قبل نزوله لا غني عنه للنّفوس الجاهلة انتهى، و الأظهر ما قلناه.
(فاستشفوه من أدوائكم) أى من أمراضكم الظاهرة و الباطنة و الرّوحانية و الجسمانيّة، فانّ فيه شفاء من كلّ ذلك قال سبحانه: وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ.
و روى في الكافي عن السّكوني عن أبي عبد اللّه عن آبائه عليهم السّلام قال: شكى رجل إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وجعا في صدره فقال: استشف بالقرآن فانّ اللّه عزّ و جلّ يقول: وَ شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ.
(و استعينوا به من لأوائكم) أى من شدائد الدّهر و محن الزمان و طوارق البلايا و الحدثان.
روى في الكافي عن أحمد المنقري قال: سمعت أبا إبراهيم عليه السّلام يقول من استكفى باية من القرآن من المشرق إلى المغرب كفى إذا كان بيقين.
و فيه عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: و الّذي بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله بالحقّ و أكرم أهل بيته ما من شي ء تطلبونه من حرز من حرق أو غرق أو سرق أو إفلات دابّة من صاحبها أو ضالّة أو آبق إلّا و هو في القرآن فمن أراد ذلك فليسألني عنه الحديث.
و أنت إذا لاحظت الروايات الواردة في خواصّ السّور و الايات تجد أنها كنز لا يفنى و بحر لا ينفد، و أنّ فيها ما به نجاة من كلّ همّ و نجاة من كلّ غمّ و عوذة من كلّ لمم و سلامة من كل ألم و خلاص من كلّ شدّة و مناص من كلّ داهية و مصيبة و فرج من ضيق المعيشة و مخرج إلى سعة العيشة إلى غير هذه مما هو خارج عن حدّ الاحصاء و متجاوز عن طور الاستقصاء، فلا شي ء أفضل منه للاستشفاء من الأسقام و الأدواء و لا للاستعانة من الشدائد و اللأواء.
(و انّ فيه شفاء من أكبر الدّاء و هو الكفر و النّفاق و الغىّ و الضلال) قال أبو عبد اللّه عليه السّلام في الحديث المرويّ في الكافي مرفوعا لا و اللّه لا يرجع الأمر و الخلافة إلى آل أبى بكر و عمر و لا إلى بني اميّة أبدا و لا في ولد طلحة و الزبير أبدا و ذلك إنهم نبذوا القرآن و أبطلوا السّنن و عطّلوا الأحكام.
و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم القرآن هدى من الضلالة و تبيان من العمى و استقالة من العثرة و نور من الظلمة و ضياء من الأحداث و عصمة من الهلكة و رشد من الغواية و بيان من الفتن و بلاغ من الدّنيا إلى الاخرة، و فيه كمال دينكم و ما عدل أحد عن القرآن إلّا إلى النار.
(فاسألوا اللّه به و توجّهوا إليه بحبّه) يحتمل أن يكون المراد به جعله وسيلة إليه سبحانه في نيل المسائل لكونه أقوى الوسائل، و أن يتوجّه إليه بحبّه أى بحبّ السائل المتوجّه له أو بكونه محبوبا للّه تعالى في انجاح السؤلات و قضاء الحاجات، و أن يكون المراد به اعداد النفوس و إكمالها بما اشتمل عليه الكتاب العزيز من الكمالات النفسانيّة ثمّ يطلب الحاجات و يستنزل الخيرات بعد حصول الكمال لها، و على هذا فالمقصود من التوجّه إليه بحبّه تأكيد الاستكمال اذ من أحبّه استكمل بما فيه فحسن توجّهه إليه تعالى و الأظهر هو الاحتمال الأوّل بقرينة قوله (و لا تسألوا به خلقه) لظهوره في أنّ المراد به هو النهى عن جعله وسيلة للمسألة إلى الخلق.
قال أبو عبد اللّه عليه السّلام في رواية الكافي عن يعقوب الأحمر عنه عليه السّلام: إنّ من الناس من يقرأ القرآن ليقال فلان قارئ، و منهم من يقرأ القرآن ليطلب به الدّنيا و لا خير في ذلك، و منهم من يقرأ القرآن لينتفع به في صلاته و ليله و نهاره.
و فيه أيضا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قرّاء القرآن ثلاثة: رجل قرء القرآن فاتّخذه بضاعة و استدرّ به الملوك و استطال به على النّاس، و رجل قرء القرآن فحفظ حروفه و ضيّع حدوده و أقامه إقامة القدح فلا كثر اللّه هؤلاء من حملة القرآن. و رجل قرء القرآن فوضع دواء القرآن على داء قلبه فأسهر به ليله و أظمأ به نهاره و قام به في مساجده و تجافي به عن فراشه فباولئك يدفع اللّه العزيز الجبّار البلاء، و بأولئك يديل اللّه عزّ و جلّ من الأعداء، و بأولئك ينزل اللّه تبارك و تعالى الغيث من السماء فو اللّه لهؤلاء في قرّاء القرآن أعزّ من الكبريت الأحمر.
و علّل الأمر بسؤال اللّه به بأنه (ما توجّه العباد إلى اللّه بمثله) لأنّ له كرامة عند اللّه سبحانه و مقاما يغبطه به الأوّلون و الاخرون حسبما تعرفه في الأخبار الاتية فهو أفضل الوسائل للسائل في انجاح المقاصد و المسائل الدنيويّة و الأخرويّة، فالمتوجّه به إليه سبحانه لا يردّ دعاؤه و لا يخيب رجاؤه.
(و اعلموا أنّه شافع مشفّع و قائل مصدّق) يعني أنه يشفع لقرّائه و العاملين به الحاملين له يوم القيامة فيقبل شفاعته في حقّهم، و يقول و يشهد في حقّ هؤلاء بخير و في حقّ التاركين له و النابذين به وراء ظهورهم بشرّ فيصدق فيهما كما أشار إليه بقوله: (و أنه من شفع له القرآن يوم القيامة شفع فيه) أى قبلت شفاعته (و من محل به القرآن) أى سعى به إلى اللّه تعالى و قال في حقّه قولا يضرّه و يوقعه في المكروه (يوم القيامة صدّق عليه).
قال الشارح البحراني استعار عليه السّلام لفظى الشافع و المشفع و وجه الاستعارة كون تدبّره و العمل بما فيه ماحيا لما يعرض للنفس من الهيات الرديّة من المعاصي، و ذلك مستلزم لمحو غضب اللّه كما يمحو الشفيع المشفّع أثر الذنب عن قلب المشفوع إليه و كذلك لفظ القائل المصدّق و وجه الاستعارة كونه ذا ألفاظ إذا نطق بها لا يمكن تكذيبها كالقائل الصادق، ثمّ أعاد معنى كونه شافعا مشفّعا يوم القيامة ثمّ استعار لفظ المحل للقرآن و وجه الاستعارة أنّ لسان حال القرآن شاهد في علم اللّه و حضرة ربوبيّته على من أعرض عنه بعدم اتباعه و مخالفته لما اشتمل عليه فبالواجب أن يصدّق فأشبه السّاعي إلى السّلطان في حقّ غيره بما يضرّه انتهى.
أقول: و الانصاف أنّ حمل الكلام على المجاز مع التمكّن من إرادة الحقيقة لا معنى له كما قلناه في شرح الفصل السادس من الخطبة الثانية و الثمانين، و الحمل على الحقيقة هنا ممكن بل متعيّن لدلالة غير واحد من الرّوايات على أنّه يأتي يوم القيامة بصورت إنسان في أحسن صورة و يشفع في حقّ قرّائه العاملين به، و يسعى في حقّ المعرضين عنه، و على هذا فلا وجه لحمل لفظ الشفاعة و القول و المحل على معناها المجازي و لا بأس بالاشارة إلى بعض ما يدلّ على ذلك فأقول: روى ثقة الاسلام الكليني في الكافي عن عليّ بن محمّد عن عليّ بن العباس عن الحسين بن عبد الرّحمان عن صفوان الحريرى عن أبيه عن سعد الخفاف عن أبي جعفر عليه السّلام قال: يا سعد تعلّموا القرآن فانّ القرآن يأتي يوم القيامة في أحسن صورة نظر إليها الخلق و النّاس صفوف عشرون و مأئة ألف صفّ ثمانون ألف صفّ من امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أربعون ألف صفّ من ساير الامم فيأتي على صفّ المسلمين في صورة رجل فيسلم فينظرون إليه ثمّ يقولون لا إله إلّا اللّه الحليم الكريم إنّ هذا الرّجل من المسلمين نعرفه بنعته و صفته غير أنه كان أشدّ اجتهادا منّا في القرآن فمن هناك اعطى من البهاء و الجمال و النور ما لم نعطه.
ثمّ يجوز حتّى يأتي على صفّ الشهداء فينظر إليه الشهداء ثم يقولون: لا إله إلّا اللّه الرّبّ الرحيم إنّ هذا الرّجل من الشهداء نعرفه بسمته و صفته غير أنه من شهداء البحر فمن هناك اعطى من البهاء و الفضل ما لم نعطه.
قال فيجاوز حتّى يأتي صفّ شهداء البحر فينظر إليه شهداء البحر فيكثر تعجّبهم و يقولون: إنّ هذا من شهداء البحر نعرفه بسمته و صفته غير أنّ الجزيرة التي أصيب فيها كانت أعظم هولا من الجزيرة التي أصبنا فيها فمن هناك أعطى من البهاء و الجمال و النور ما لم نعطه.
ثمّ يجاوز حتّى يأتي صفّ النبيّين و المرسلين في صورة نبيّ مرسل فينظر النّبيّون و المرسلون إليه فيشتدّ لذلك تعجّبهم و يقولون: لا إله إلّا اللّه الحليم الكريم إنّ هذا النبيّ «لنبيّ خ» مرسل نعرفه بصفته و سمته غير أنه أعطى فضلا كثيرا قال: فيجتمعون فيأتون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيسألونه و يقولون: يا محمّد من هذا فيقول صلّى اللّه عليه و آله لهم: أو ما تعرفونه فيقولون ما نعرفه هذا من لم يغضب اللّه عزّ و جلّ عليه، فيقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: هذا حجّة اللّه على خلقه فيسلم.
ثمّ يجاوز حتّى يأتي على صفّ الملائكة في صورة ملك مقرّب فينظر إليه الملائكة فيشتدّ تعجّبهم و يكبر ذلك عليهم لما رأوا من فضله و يقولون: تعالى ربّنا و تقدّس إنّ هذا العبد من الملائكة نعرفه بسمته و صفته غير أنه كان أقرب الملائكة إلى اللّه عز و جلّ مقاما فمن هناك البس من النّور و الجمال ما لم نلبس.
ثمّ يجاوز حتّى ينتهى إلى ربّ العزّة تبارك و تعالى فيخرّ تحت العرش فيناديه تبارك و تعالى يا حجّتي في الأرض و كلامي الصّادق و الناطق ارفع رأسك سل تعط و اشفع تشفّع، فيرفع رأسه فيقول اللّه تبارك و تعالى: كيف رأيت عبادي فيقول: يا ربّ منهم من صانني و حافظ علىّ و لم يضيّع شيئا، و منهم من ضيّعني و استخفّ بحقّي و كذّب بي و أنا حجّتك على جميع خلقك، فيقول اللّه تبارك و تعالى: و عزّتي و جلالي و ارتفاع مكاني لاثيبنّ عليك اليوم أحسن الثواب، و لاعاقبنّ عليك اليوم أليم العقاب.
قال: فيرفع القرآن رأسه في صورة اخرى قال: فقلت له عليه السّلام يا أبا جعفر في أىّ صورة يرجع قال: في صورة رجل شاحب متغيّر يبصره «ينكره خ» أهل الجمع فيأتي الرّجل من شيعتنا الذي كان يعرفه و يجادل به أهل الخلاف فيقوم بين يديه فيقول ما تعرفنى فينظر إليه الرجل فيقول: ما أعرفك يا عبد اللّه.
قال: فيرجع في صورته الّتي كانت في الخلق الأوّل فيقول: ما تعرفني فيقول نعم، فيقول القرآن: أنا الّذي أسهرت ليلك و أنصبت عينك و سمعت فيّ الأذى و رجمت بالقول فيّ ألا و إنّ كلّ تاجر قد استوفي تجارته و أنا وراءك اليوم، قال فينطلق به إلى ربّ العزّة تبارك و تعالى فيقول: يا ربّ عبدك و أنت أعلم به قد كان نصبا بي مواظبا علىّ يعادي بسببي و يحبّ فيّ و يبغض، فيقول اللّه عزّ و جلّ ادخلوا عبدي جنّتي و اكسوه حلّة من حلل الجنّة، و توّجوه بتاج.
فاذا فعل به ذلك عرض على القرآن فيقال له: هل رضيت بما فعل بوليّك فيقول: يا ربّ أستقلّ هذا له فزده مزيد الخير كلّه، فيقول عزّ و جلّ: و عزّتي و جلالي و علوّى و ارتفاع مكاني لأنحلنّ له اليوم خمسة أشياء مع المزيد له و لمن كان بمنزلته: ألا إنهم شباب لا يهرمون، و أصحّاء لا يسقمون، و أغنياء لا يفتقرون، و فرحون لا يحزنون، و أحياء لا يموتون، ثمّ تلى عليه السّلام هذه الاية: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى .
قال قلت يا با جعفر و هل يتكلّم القرآن فتبسّم عليه السّلام ثمّ قال: رحم اللّه الضعفاء من شيعتنا إنّهم أهل تسليم، ثمّ قال: نعم يا أبا سعد و الصّلاة تتكلّم و لها صورة و خلق تأمر و تنهى، قال سعد: فتغيّر لذلك لوني و قلت: هذا شي ء لا أستطيع التكلّم به في النّاس، فقال أبو جعفر عليه السّلام: و هل النّاس إلّا شيعتنا فمن لم يعرف الصّلاة فقد أنكر حقنا.
ثمّ قال: يا سعد اسمعك كلام القرآن قال سعد: فقلت: بلى فقال عليه السّلام إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، فالنّهى كلام و الفحشاء و المنكر رجال و نحن ذكر اللّه و نحن أكبر.
و فيه بسنده عن يونس بن عمّار قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام إنّ الدّواوين يوم القيامة ثلاثة: ديوان فيه النعم، و ديوان فيه الحسنات، و ديوان فيه السيئات، فيقابل بين ديوان النعم و ديوان الحسنات، فيستغرق النعم عامّة الحسنات، و يبقى ديوان السيئات فيدعى بابن آدم المؤمن للحسنات «للحساب خ» فيتقدّم القرآن أمامه في أحسن صورة فيقول: يا ربّ أنا القرآن و هذا عبدك المؤمن قد كان يتعب نفسه بتلاوتي و يطيل ليله بترتيلي و تفيض عيناه إذا تهجّد، فارضه كما أرضاني قال: فيقول العزيز الجبّار: عبدى ابسط يمينك، فيملوها من رضوان اللّه العزيز الجبّار، و يملأ شماله من رحمة اللّه، ثمّ يقال: هذه الجنّة مباحة لك فاقرء و اصعد فاذا قرء آية صعد درجة.
و فيه مسندا عن إسحاق بن غالب قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: إذا جمع اللّه عزّ و جلّ الأوّلين و الاخرين إذا هم بشخص قد أقبل لم ير قط أحسن صورة منه، فاذا نظر إليه المؤمنون و هو القرآن قالوا هذا منّا هذا أحسن شي ء رأينا، فاذا انتهى إليهم جازهم، ثمّ ينظر إليه الشهداء حتّى إذا انتهى إلى آخرهم جازهم فيقولون هذا القرآن فيجوزهم كلّهم حتّى إذا انتهى إلى المرسلين فيقولون هذا القرآن فيجوزهم حتّى ينتهى إلى الملائكة فيقولون هذا القرآن فيجوزهم ثمّ ينتهى حتّى يقف عن يمين العرش، فيقول الجبّار و عزّتي و جلالي و ارتفاع مكاني لاكرمنّ اليوم من أكرمك و لاهيننّ من أهانك.
و فيه عن الفضيل بن يسار باسناده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: تعلّموا القرآن فانّه يأتي يوم القيامة صاحبه في صورة شاب جميل شاحب اللّون فيقول له: أنا القرآن الّذي كنت أسهرت ليلك و أظمأت هواجرك و أجففت ريقك و أسلت دمعتك أؤل معك حيث ما الت، و كلّ تاجر من وراء تجارته و أنا اليوم لك من وراء تجارة كلّ تاجر، و سيأتيك كرامة من اللّه عزّ و جلّ فابشر.
فيؤتى بتاج فيوضع على رأسه و يعطى الأمان بيمينه و الخلد في الجنان بيساره و يكسى حلّتين ثمّ يقال له: اقرء و ارق، كلّما قرء آية صعد درجة و يكسى أبواه حلّتين إن كانا مؤمنين ثمّ يقال لهما: هذا لما علّمتماه القرآن.
إلى غيره مما لا نطيل بروايتها فقد ظهر منهم أنّه يجي ء يوم القيامة في صورة انسان و له لسان يشهد للناس و عليهم و يقبل شهادته نفعا و ضرّا و شفاعته في حقّ المراقبين له و ينتفع به الاخذون له و العاملون به.
(فانه ينادى مناد يوم القيامة) الظاهر أنّ المنادى من الملائكة من عند ربّ العزّة، و قول الشارحين انه لسان حال الأعمال تأويل لا داعى إليه (ألا) و (إنّ كلّ حارث) أصل الحرث إثارة الأرض للزراعة و المراد هنا مطلق الكسب و التّجارة (مبتلى في حرثه و عاقبة عمله غير حرثة القرآن).
قال الشارح البحراني: الحرث كلّ عمل تطلب به غاية و تستخرج منه ثمرة و الابتلاء ههنا ما يلحق النفس على الأعمال و عواقبها من العذاب بقدر الخروج فيها عن طاعة اللّه. و ظاهر أنّ حرث القرآن و البحث عن مقاصده لغاية الاستكمال به برى ء من لواحق العقوبات انتهى.
أقول: و فيه أنّ كلّ عمل كان فيه الخروج عن طاعة اللّه فعامله معذّب و مبتلى سواء كان ذلك العمل مما لا يتعلّق بالقرآن أو كان متعلّقا به كقرائته و البحث عن مقاصده و الحفظ له و نحو ذلك و إذا كان على وجه الرياء أو تحصيل حطام الدّنيا و كلّ عمل اريد به وجه اللّه و كان الغاية منه الاستكمال فعامله مأجور و مثاب من دون فرق فيه أيضا بين القرآن و غيره، و بعبارة اخرى كلّ حارث سواء كان حارث القرآن أو غيره إن لم يقصد بحرثه الخلوص فمبتلى، و إلّا فلا، فتعليل عدم ابتلاء حرثة القرآن بأنّ حرثهم للاستكمال به و ابتلاء الاخرين بأنّ في حرثهم خروجا من الطاعة شطط من الكلام كما لا يخفى.
و الّذي عندي أن يراد بقوله عليه السّلام: كلّ حارث من كان حرثه للدّنيا فهو مبتلى أى ممتحن في حرثه لأنه إن كان من حلال ففيه حساب و إن كان من حرام ففيه عقاب و أما حارث القرآن لأجل أنه قرآن و كلام اللّه عزّ و جلّ فلا ابتلاء له لأنّ حرثه على ذلك إنّما هو للاخرة قال اللّه تعالى: «مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَ مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ» فتأمّل.
و لما نبّه عليه السّلام على عدم ابتلاء حرثة القرآن أمر بحرثه بقوله (فكونوا من حرثته و أتباعه) و أردفه بقوله (و استدلوه على ربكم) أى اجعلوه دليلا عليه سبحانه و قائدا إليه تعالى لاشتماله على جميع صفات الجمال و الجلال و أوصاف الكبرياء و العظمة و الكمال (و استنصحوه على أنفسكم) أى اتّخذوه ناصحا لكم رادعا لأنفسكم الأمّارة عن السّوء و الفحشاء و المنكر لتضمّنه الايات الناهية المحذرة و الوعيدات الزاجرة المنذرة (و اتّهموا عليه آرائكم) أى إذا أدت آرائكم إلى شي ء مخالف للقرآن فاجعلوها متّهمة عندكم (و استغشوا فيه أهوائكم).
قال الشارح البحراني: و انما قال هنا استغشوا و في الاراء اتّهموا، لأنّ الهوا هو ميل النفس الأمّارة من غير مراجعة العقل فاذا حكمت النفس عن متابعتها بحكم فهو غشّ صراح، و أمّا الرأى فقد يكون بمراجعة العقل و حكمه و قد يكون بدونه، فجاز ان يكون حقا و جاز أن يكون باطلا فكان بالتهمة أولى.
|