و من خطبة له عليه السّلام فى بعض ايام صفين و هى المأة و السادسة من المختار فى باب الخطب
و قد رأيت جولتكم و انحيازكم عن صفوفكم، تحوزكم الجفاة الطّعام، و أعراب أهل الشّام، و أنتم لهاميم العرب، و يآفيخ الشّرف، و الأنف المقدّم، و السّنام الأعظم، و لقد شفى و حاوح صدري أن رأيتكم بآخره تحوزونهم كما حازوكم، و تزيلونهم عن مواقفهم كما أزالوكم، حسّا بالنّضال، و شجرا بالرّماح، تركب أوليهم أخراهم كالإبل اليهم المطرودة، ترمى عن حياضها، و تذاد عن مواردها.
اللغة
(جال) الفرس في الميدان يجول جولة و جولانا قطع جوانبه، و جال القوم جولة انكشفوا ثمّ كرّوا و (انحاز) الرجل إلى القوم بمعنى تحيّز إليهم، قال تعالى: أو متحيّزا إلى فئة، أى مائلا إلى جماعة من المسلمين، و في القاموس انحاز القوم تركوا مراكزهم و (حزت) الشي ء جمعته و ضممته و حزته أيضا غلبته و (الجفاة) جمع جاف و هو الغليظ من النّاس و (الطغام) بالطاء المهملة و الغين المعجمة و زان سحاب الأوغاد من النّاس، و هى جمع وغد و هو الأحمق الضّعيف الرّذل الدّني.
و (العرب) محركة خلاف العجم مؤنث و هم سكّان الأمصار أو عامّ و الأعراب منهم سكان البادية لا واحد لها و يقال للواحد أعرابي و (اللّهاميم) جمع اللّهموم بالكسر كالقنديل و القناديل و هو السّابق الجواد من النّاس و الخيل أو جمع اللّهموم بالفتح كاليعسوب و اليعاسيب و هي النّاقة الغزيرة و السّحابة الغزيزة القطر و (اليآفيخ) جمع يافوخ و هو ملتقى عظم مقدم الرأس و مؤخره و يقال لمعظم الشي ء أيضا و (الوحاوح) جمع الوحوحة و هو صوت معه بحح و (الحسّ) القتل قال تعالى: إذ تحسّونهم باذنه، و (الشجر) الطعن و (الهيم) من الابل العطاش.
الاعراب
جملة و أنتم لهاميم العرب في محلّ النّصب على الحال من مفعول تحوز، و قوله أن رأيتكم على التأويل بالمصدر فاعل شفى، و حسا و شجرا منصوبان على المصدر
المعنى
اعلم أنه قد تقدّم في شرح الكلام الخامس و الستّين رواية هذه الخطبة عن نصر بن مزاحم عن زيد بن وهب باختلاف لما هنا و ظهر لك ثمة أنّه عليه السّلام خطب بهذه الخطبة لما انهزم ميمنة أهل العراق ثمّ عادت إلى موقفها و اجتمعت إلى الأشتر و حمل الأشتر معهم على صفوف أهل الشّام و كشف من بازائهم فخاطبهم أمير المؤمنين بهذا الكلام فقال: (و قد رأيت جولتكم و انحيازكم عن صفوفكم) أى انكشافكم و ميلكم عن صفوفكم و هو كناية عن هزيمتهم و هربهم عدل عليه السّلام في التعبير عن اللّفظ المنفر الى لفظ غير منفر قال الشارح المعتزلي: و هو باب من أبواب البيان لطيف و هو حسن التّوصل بايراد كلام غير مزعج عوضا عن لفظ يتضمّن تقريعا.
(تحوزكم) أى تغلبكم (الجفاة الطّغام) أى الغلاظ الأوغاد (و أعراب أهل الشام) و الإتيان بلفظ الاعراب إمّا بيان للواقع أو تبكيت لأصحابه و توبيخ لهم بأنه لا يليق بمثلهم في الشرف و السّودد أن يحوزه أراذل العرب و البدوي منهم و ربما يشعر بذلك قوله عليه السّلام (و أنتم لهاميم العرب) و ساداتها (و يآفيخ الشرف) تشبيههم باليآفيخ لكونهم في علوّهم و شرفهم بالنسبة إلى العرب كاليآفيخ بالنسبة إلى الأبدان (و) كذلك التشبيه با (الانف المقدم و السنام الأعظم) و استعارة لفظى الأنف و السنام لهم باعتبار العزّ و الشرف، فانّ الأنف أعزّ الأعضاء و أشرفها و متقدّم عليها و حسن الوجه به قال الشّاعر:
- قوم هم الأنف و الأذناب غيرهمو من يساوى بأنف الناقة الذّنبا
و هكذا السنام في عزّته و علوّه بالنسبة إلى باقى أعضاء الجمل (و لقد شفى و حاوح صدرى) و هي كناية عن تألّمه و حرقة قلبه الناشي عن غلبة العدوّ (أن رأيتكم بآخرة) أى آخر الأمر (تحوزونهم كما حازوكم و تزيلونهم عن مواقفهم) و مراكزهم (كما أزالوكم حسّا بالنّضال و شجرا بالرّماح) أى تقتلونهم قتلا بالمراماة، و تطعنونهم طعنا بالرّماح حالكونهم (تركب اوليهم اخربهم) أى الكتيبة الاولى منهم الكتيبة الاخرى موليّن مدبرين (كالابل الهيم) العطاش المجتمعة على الحياض للشرب (المطرودة) بعد اجتماعها (ترمى) بالسهام و تدفع (عن حياضها و تذاد) و تطرد (عن مواردها) فانّ طردها على ذلك الاجتماع يوجب ركوب بعضها بعضا و وقوع بعضها على بعض و كذلك تلك الكتائب.
|